ثمة تداعيات خطيرة تهدد مستقبل أي بلد تتعدد فيه مراكز القوى، او تكون فيه جهات تعتقد انها فوق القانون. فلا يكتب لهذا البلد أي استقرار او سلام حقيقي. اذ ان سيادة القانون شرط اساس لقيام دولة حضارية مستقرة، تحترم حقوق الانسان، وتعمل على بناء مجتمع مدني تتوحد فيه الولاءات، وتذوب فيه الفوارق الطبقية امام القانون. ولا يمكن للعراق التوفر على صيغة حضارية، او مواصلة طريق النهوض الحضاري الديمقراطي، ما دامت هناك مراكز قوى تنافس سلطة الدولة، وربما تتحدى سلطة القانون، اذا وجدت فيها ما يخالف قناعاتها.
لا شك ان النخب العراقية راغبة في سيادة القانون. وقد نصت المادة الخامسة من مسودة الدستور على ان (السيادة للقانون،والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري المباشر وعبر مؤسساته الدستورية). لكن سيادة القانون غير متوقفة على قرار او نص دستوري قدر توقفها على تبني القانون سلطة عليا في البلد. مما يعني اننا بحاجة الى وضع آليات كفيلة بتفكيك مراكز القوى المنافسة لسلطة القانون، او التي يخشى عليه منها. الى جانب خطاب تثقيفي يعيد تشكيل صورة القانون في اذهان الناس، ودعم تلك المفاهيم بخطى عملية تعكس مدى التزام المسؤولين الحكوميين لقوانين الدولة، ومدى احترام الشعب لها. والسؤال الاساس هل يمكن لمراكز القوى الانصياع لسلطة القانون؟ وهل يمكن لانصار التيارات المتعاطفة معها الانحياز الى القانون دائما؟ وسبب الشك في قضية الولاء للقانون يعود لسببين:
اولا: ان الحكومات التي تعاقبت على البلد هي حكومات استبدادية، لا شرعية، لم تحترم القانون، ولم ترتكز اليه في توزيع الوظائف والمناصب الحكومية. بل كانت العلاقات الشخصية والحزبية اقوى من القانون في انجاز وتمشية المعاملات الادارية. فالشعب لم يشاهد نماذج حريصة على تطبيق القوانين واحترامها، وانما عايش اجواء المحسوبية والمنسوبية والرشوة والعلاقات الخاصة، واختصاص العقاب بالضعفاء والمهمشين اجتماعيا بينما لا ينال من ينتمي لطبقات اجتماعية راقية عقابا قانونيا رادعا. وبالتالي فثقة الشعب بالقانون مهزوزة، متداعية، بحاجة الى تجربة عملية صادقة تعيد ثقته بالقانون وبالمسؤولين القيمين على تطبيقه.
وثانيا: ان العقلية العراقية عقلية قبلية، تكونت في اطار قيم العشيرة، حتى باتت تلك القيم سلطة تتحكم في طريقة تفكير الفرد في جميع مناشط الحياة الاجتماعية. واصبحت علامة فارقة تمتاز بها الاحزاب والحركات السياسية، دينية او علمانية. بل ان قيم العشيرة تحكم علاقة الفرد بمرجعياته الدينية، اسلامية او غيرها، شيعية او سنية. وتمتاز قيم العشيرة بصفتين اساسيتين، تقديس سلطة الشيخ، وضمان ولاء الفرد. بل ان ولاء الفرد بالذات واساسا لعشيرته وحزبه ومرجعيته الدينية. وهو على استعداد تام للتضحية بالقانون لصالح قيمه العشائرية. ولا تقلقه مصلحة القانون عندما يتقاطع مع مصلحة العشيرة او الحزب. وعلى اساس هذا الولاء ينساق الفرد مع العقل الجمعي ضاربا عرض الجدار كل قيم العقل والعقلانية والقانون. والعشيرة قادرة على اساس هذا الولاء تعبئة كل افرادها خلال زمن قصير، وقادرة على زجهم في كل المتاهات والحروب.
والحل الامثل لهذه المشكلة هو تضمين الدستور والقوانين لكل ما يطمح له الفرد العراقي، كالنص على شرعية وقانونية وفوقية الوجودات التي ينتمي لها. كي يوائم بين القوانين والقيم التي يؤمن بها. وهذا امر مستحيل، ولا يمكن التفكير به بالنسبة الى بلد يحاول نسيان الماضي ويسعى لقيام دولة القانون والقيم الحضارية التي تتلاشى فيها الفوارق الاجتماعية والسياسية والدينية امامه. بل ان طموحنا ان يصبح رئيس الدول واصغر فرد في المجتمع سواء امام القانون. ثم ان التنوع القومي والديني والمذهبي، لا يسمح بتفضيل جهة على اخرى كي تختص بنص دستوري او قانوني دون غيرها. فالكل سواسية ولهم حقوق مشتركة.
والحل الثاني ممكن على المدى البعيد، وهو اعادة تشكيل عقل الفرد العراقي كي ينحاز دوما لصالح القانون، ويتخلى عن ولائه الآخر عندما يتصادم معه. فنحتاج اذن الى الية قادرة على تفكيك قيم العشيرة واعادة ترتيبها بشكل لا تتحدى القانون او تتعالى عليه. وليس في هذا الكلام تحريض ضد أي جهة سياسية او دينية. فلا ندعو الى هجران العشيرة او اهانة المرجعيات الدينية او تحدي القيم الاجتماعية، وانما اعادة تنظيم العلاقة بها، بشكل يكون القانون مرجعية نهائية لجميع ابناء الشعب. وبهذه الطريقة فقط يمكن السيطرة على مراكز القوى الموجودة في الساحة واخضاعها لسلطة القانون، والا مع وجود جهات ومراكز قوى تتحدى القانون وتتعالى على اوامر الدولة لا يمكن التوفر على مجتمع مدني تحكمه القوانين والانظمة. وسيتحول البلد الى دويلات وقوى داخل الدولة الواحدة. يمكنها تحريك انصارها متى شاءت.
والمشكل الاساسية ان الشعب موزع في ولائه بين الاحزاب السياسية، والمرجعيات الدينية، والكيانات العشائرية. فلا يمكننا الرهان على ولائه للقانون، بل ان الحكومة اليوم تخشى على الامن والسلام من قبل تلك الكيانات كخشيتها عليه من العنف والارهاب. فمن السهل جدا على الحزبين الحاكمين في الشمال التحرك ضد القوات الحكومية. وليس صعبا على المرجعيات السنية تحريض المناطق الغربية ضد قرارات الدولة، والامر ذاته في الجنوب والوسط بالنسبة الى الاحزاب الشيعية. ولا شك ان ولاء الشخص الكردي للحزبين الوطني الكردستاني، والديمقراطي اقوى من ولائه لقانون الدولة. وايضا فان ولاء الفرد السني لمرجعياته الدينية واحزابه السياسية اقوى من ولائه لقوانين الدولة، بل ان ولاء البعض ما زال لحزب البعث والرئيس المخلوع، وما زال يرفع صوره ولافتاته في المظاهرات الشعبية. وبعض آخر زاد في ذلك فكان ولاؤه للحركات الدينية المتطرفة، وبات مستعدا لضرب العراق واهله، او قيادة مركبة محملة بالمتفجرات وسط جموع من ابناء الشعب العراقي. وليس الجنوب بافضل في ولائه لقوانين الدولة، بل ان المرجعيات الدينية والحزبية قادرة على تحريك الجموع الكبيرة من ابناء الوسط والجنوب في اشارة بسيطة من احد قيادتهم الدينية او السياسية. وما زالت الاخبار تترى عن سيطرة مجموعات لا قانونية على عدد كبير من مناطق العراق (شمال، غرب ، وسط ، جنوب)، بل يؤكد البعض انها باتت هي الحاكم الحقيقة في تلك المناطق، وباتت تفرض ارادتها على المسؤولين الحكوميين.
والخطوة الاولى على طريق احترام القانون وبناء سلطة الدولة، هو تعهد جميع الاحزاب المشاركة في الحكم على احترام القانون وتبني ثقافة القيم الديمقراطية التي تحترم الرأى الآخر، والاستجابة لاوامر الدولة، وتحمل مسؤولية المحافظة على تطبيق الانظمة. كما يفترض بالمرجعيات الدينية تأكيد سلطة القانون والافتاء بحرمة كسر القوانين او التجاوز عليها. والعمل الجاد الصادق على بث وعي وطني يعيد ترتيب الاولويات بشكل يكون الولاء للقانون فوق كل ولاء. والتخلي عن مبدأ الاستجابة العشائرية اللاواعية لنداء القادة والسياسيين، الذي كثيرا ما يكون على حساب البلد ومصالحه القومية.
واما على مستوى التربية والتعليم فيجب تبني مناهج مدرسية تعيد تشكيل النشء الجديد بشكل يكون حريصا على تطبيق القوانين ورعايتها، بعد التخلي عن قيم العشيرة بالمعنى الاعم لها. وتبني القيم الوطنية المخلصة للعراق وشعبه.
[email protected]