كان حقا للدكتور شاكر النابلسي أن ينتشي بانتصار بيان الليبراليين العرب والأكراد الذي رفعه معدوه إلى الأمم المتحدة في فبراير 2005 مشفوعا بتوقيعات أربعة آلاف من المثقفين الرافضين للتحريض على الإرهاب الذي يمثل التأسيس الديني والفكري لتفجيراته وممارساته فيما بعد، ولأنها مبادرة وخروج من الخطاب إلى الممارسة كان محلا للتقدير من الأمم المتحدة وصدور القرار 1626 الذي أقرته القمة العالمية الحالية الذي يوصي بمنع التحريض على القيام بالأعمال الإرهابية عن طريق تبني قانون لهذا الغرض. ويدعو كل الدول إلى مواجهة ما أسماه الإيديولوجيات المتشددة واتخاذ خطوات لـ"منع التحريض في مجالات التعليم والثقافة وفي المؤسسات الدينية على يد الإرهابيين وأنصارهم"، وكذا حرمانهم من الملاذ الآمن. وقد اعتبره دكتور النابلسي انتصارا لليبراليين العرب والأكراد الذين صاغوه وظني أنه ليس انتصارا واحدا ولكن انتصارات عديدة أهمها فاعلية المبادرة فهذه من المرات القليلة في تاريخ الثقافة العربية التي تجتمع فيها نخب مثقفة على رفض عمل غير مقبول والتكتل لذلك، خاصة وأن الإرهاب في العالم العربي صار حلالا في وجه الآخرين بشكل ما المختلفين سياسيا أو فكريا أو حضاريا، أو على الأقل لا يحزن عليهم إنهم " كفار" ولكن ما فعله البيان المبادرة أنه أكد أننا إنسانيون نرفض لغة الدم قانونا ونحترم الحق في الحياة للجميع مهما كانت المبررات التاريخية أو الواقعية. أما الانتصار الثاني الذي حققه البيان فهو أن الأفكار تدب فيها الحياة وهو استجابة الجمعية العامة لبيان لليبراليين العرب والأكراد، فالفعل العقلاني والحضاري يجد من يسمعه فضلا عن احترامه وتقديره كما يتضح من رسالة المستشار القانوني للسيد عنان التي أوردها الدكتور النابلسي ومن ثم يأتي التبني وهو ما كان. أما الانتصار الأهم فهو الفعل الليبرالي في محيطنا العربي نفسه فقد استحال الليبراليون العرب قبل صدور بيان تأسيسهم في عام 2004 أفرادا يبحث الكثيرون منهم عن مظلة أو قوة يستظل بها بغض النظر عن صدق ليبراليته أو عمقها ولكن كانت مبادرتهم التأسيسية المستقلة التي تبناها النابلسي والعفيف الأخضر وغيرهم ثم فعلهم وخطابهم المؤسس تجاوزا لحالة الاستلاب الليبرالي الفردي نحو أعمال تنظيمية وتوافقية أكثر تأثيرا، ينتقل بالخطاب العربي الذي أصابت تياراته ومشروعاته آفات الشلل والتكلس والمزايدة والحسابات نحو آفاق معرفية أوسع أكثر استيعابا للعالم فضلا عن تحقق إمكانيتها فيه أما غيرهم فما زال يختبر مقولاته التي تهتز منه في كل لحظة في عالم لم تتصور أن يأتي عليها بكل مفاجآته، ولم يعد لها من أمل نفسي إلا في عودة المهدي أو انتصار الزرقاوي فهو عندهم أهون من الجعفري أو علاوي . إن الليبراليين الجدد بهذا التطور الذي رصده النابلسي بفكره الثاقب تفتح أمامهم آفاق أكبر من الفعل والتأثير، وقد صدق الدكتور أحمد منصور الصديق الذي لم أره منذ سنين من أنه كان إعزازا للإسلام و في هذا السياق يضرب في رأسي بيت الشيخ الإمام محمد عبده: فإنما هو دين أردت صلاحه تكاد تقضي عليه العمائم

قصة في السياق:
ذات مرة كنت في اتصال هاتفي مع أحد المشايخ الفقهاء واتصلت به إحدى القنوات الفضائية على محموله تطلب رأيه في قتل المقاومة أحد المواطنين؟ فكان رده السريع بالجواز إن كان من المتعاونين مع الاحتلال، فقلت له مستغلا عمق علاقتي به ياشيخ هذا سيتيح مزيدا من الفوضى إذ يقتضي بحثا في النوايا وتصعيدا لحجتي قلت له ألم تشاهد التمثيل بالجثث فوق الكباري ألا ينهى الإسلام عن ذلك؟ فأجاب بلى قلت مزيدا من التصعيد لحجتي فقلت له وألم يحرم الإسلام قتل المدنيين غير المقاتلين في وصية أسامة وغيرها؟ قال: بلى قلت فأي مبرر لمثل هذه الأفعال من المقاومة باسم الإسلام؟ أليس الأولى البراءة أو السكوت فقال: لا أستطيع تخطئة المقاومة الناس متعاطفة معها " .. فهكذا يكون التحريش يا سادة وهكذا يفتي البعض بالعاطفة ومشاعر الغضب عند بعض العوام. و التحريش عنوان كتاب قديم لضرار بن عمرو أحد أقطاب المعتزلة ينقد فيه محاولة كل فرقة النسب والإسناد للنبي – ص – في تأويلاتها التقديسية والعنفية تجاه الآخرين، وهو ما صار شأن الكثير من مشايخنا وفقهائنا وكتابنا وإعلاميينا في التحريض والتبرير للإرهاب المعاصر. ختاما وبحثا عن مساحات أخرى من الفعل والتأثير لليبراليين الجدد أضم صوتي للصديق العزيز الدكتور أحمد منصور الذي لم أره منذ سنوات من التوجه بمثل هذه المبادرات نحو الاستبداد هذا الداء الخالد فينا حتى صار علامة علينا ونحن علامة عليه قبل ماركس وبعده، وقد صدق الشاعر المهجري إلياس فرحات حين كان يقول:
يا عدل إن التفاتا منك يسعدنا.. يا عدل إن ابتساما منك يكفينا
ما أصابنا الذل إلا من تهاوننا وما أصابنا الضيم إلا من تراخينا
تهنئة بانتصار الفعل وتحصيل الأثر في فضاء إنساني رافض للغة العنف والدم رغم أنف المشايخ والفضائيات المثيرة.

هاني نسيره كاتب وإعلامي مصري

[email protected]