في حلقة سابقة نشرناها في إيلاف، قلنا إن القرار الذي اتخذه زعماء العراقيين السنة بالاشتراك في العملية السياسية الجارية، كان قرارا صائبا تماما، وخطوة مهمة، رغم أنها جاءت متأخرة. وحتى تأتي هذه المبادرة ثمارها، يتوجب أن تكون جزءا من استراتيجية شاملة.
وأول ما تحتاجه النخب العراقية السنية، في رأينا، هو، أن تعيد تقييم، بعين جديدة، ما حدث داخل العراق منذ بدء الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحتى الآن. والأمر الأخر الذي نتمنى على النخب العراقية السنية أن تفعله هو، أن تعيد النظر في آلية تفكيرها هي: نوعية مطالبها الآنية والمستقبلية، علاقاتها بالقوى العراقية الحاكمة والتي خارج الحكم، موقفها من "المقاومة"، رؤيتها للمسألة الطائفية... الخ. باختصار، هناك مواضيع، على الزعامات العراقية السنية أن تتمعن فيها، لترى هل أن تعاملها السابق مع هذه المواضيع كان صائبا كله، أو بحاجة إلى تعديل. وسنذكر موضوعين لا أكثر:

جدولة الانسحاب
عندما شنت الولايات المتحدة حربها الأخيرة في العراق، فأنها لم تفعل ذلك لنصرة الشيعة، ولا نكاية بالسنة، ولا حبا في سواد عيون الكورد. ولم تشن حربها بحثا عن أسلحة الدمار الشامل، فهذا الموضوع هو كذبة كبيرة تم استخدامها كذريعة لشن الحرب، لأن ساسة أمريكا كانوا يعرفون معرفة اليقين أن صدام دمرها بالكامل، وكان على استعداد أن يدمر العراق كله حتى يبقى في السلطة. وأميركا لم تشن حربها لأن هذا المعارض العراقي أو ذاك أغواها وورطها، أو بسبب إصرار جماعة المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش. نعم، قد يكون فولفيتز وريشارد بيرل و روبرت كاغان ورامسفيلد ومن معهم في إدارة بوش من المحافظين الجدد، قد عجلوا في شن الحرب، لكن فكرة هذه الحرب كانت موجودة في أذهان الاستراتيجيين الاميركيين، حتى قبل أحداث 11 سبتمبر.
ويكفي أن نتذكر ما كانت تقوله وزيرة الخارجية الاميركية السابقة، مادلين أولبرايت خلال فترة الحصار، بأن "أميركا وضعت صدام حسين داخل قفص لا يمكنه أن يتحرك داخله." وها أن الفرصة قد حانت في التاسع من نيسان 2003 لإخراج صدام من قفصه، ولكن بالأسلوب وبالطريقة التي كانت تخطط لهما امريكا.
وأمريكا لم تشن الحرب لقناعتها بوجود علاقات سرية بين صدام وتنظيم القاعدة، فالجميع في الإدارة الأميركية يعرفون أن لا وجود لتلك العلاقة. بل أن أميركا لم تشن الحرب بسبب رفض "مبدأي" لصدام ونظام حكمه. فقد سبق لها أن تعايشت ودعمت نفس النظام لسنوات طويلة عندما كانت بحاجة لخدماته. ولا ننسى أن العلاقات الدبلوماسية العراقية الاميركية كانت مقطوعة بين البلدين إثر الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 ، ونظام صدام هو الذي أعادها. أيضا، علينا أن نتذكر أن أميركا تدخلت بطريقة مباشرة لدعم صدام ونظام حكمه إثناء الحرب العراقية الإيرانية. و كانت اميركا تملك على الأراضي العراقية ، رسميا، خلال سنوات تلك الحرب، محطة رصد وتصنت لوكالة المخابرات المركزية، تزود عن طريقها نظام صدام بتقارير حول تحرك القوات الإيرانية.
أميركا شنت الحرب لسبب واحد ووحيد هو، ضمان مصالحها الآنية والاستراتيجية، ولتتوج نفسها باعتبارها القوة الأعظم HYPERPUISSANCE ، وليست أحدى القوتين العظمتين، كما كان الوضع قبل شهر نوفمبر 1989 يوم انهار جدار برلين.
واميركا شنت الحرب وفقا لتوقيت محدد اختارته هي لا غيرها، وبحساباتها هي، لا وفقا لحسابات الآخرين. ورغم أن إدارة الرئيس بوش هي التي شنت الحرب، لكن الديمقراطيين ليسوا أقل تحمسا للحرب من الجمهوريين. وكل ما يقال حول الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن هذه الحرب، يظل في نطاق الخلافات بين العائلة الأميركية الواحدة، وهي خلافات حول التفاصيل، وليست حول الجوهر. وقد شنت أمريكا الحرب رغم معارضة الأمم المتحدة، ومعارضة حلفائها الأوربيين الشديدة، والتحذيرات الملحاحة من أصدقائها من الحكام العرب، ومعارضة أقسام كثيرة من الرأي العام العالمي.
ما خلاصة هذا كله ؟ الخلاصة هي، أن أميركا جاءت لتبقى. والخلاصة، أيضا، هي، أن الخطأ، بالنسبة لواضعي الاستراتيجية الاميركية، غير مسموح به في العراق. وهو يعني، أيضا، أن أمريكا لن تخرج من العراق وفق أي أجندة أخرى، سوى أجندتها هي. وأي خروج للقوات الاميركية يتم فرضه، يعني الهزيمة.
وأمريكا تعرف أنها إذا هزمت في العراق، فأنها ستتحول إلى يابان أو ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعلينا أن ندرك جيدا ماذا يعني هذا الكلام.
نعم، قد تضطر أميركا لسحب فواتها قبل الأوان، ولكن بشرط واحد هو، أن تجد مقاومة مسلحة من قبل جميع الأطراف العراقية. وهذا لم يحدث حتى الآن، والأرجح أنه لن يحدث، على الأقل في المستقبل المنظور. فالشيعة لن يشنوا حربا ضد القوات الاميركية، لأن ذلك يعني أن ينتحروا سياسيا. والكورد لن يفعلوا ذلك، لأنهم لم يحققوا مطالبهم الحالية والمستقبلية إلا برعاية اميركية. والعراقيون السنة ليسوا كلهم متحمسين للخيار العسكري، كأسلوب للمقاومة.
ولهذا، فأن على زعماء العراقيين السنة، وخصوصا المتشددين منهم، أن يكفوا عن لجاجتهم المتمثلة بوضع جدولة لانسحاب القوات الاميركية، كشرط لمشاركتهم في العملية السياسية. وإذا ظن زعماء العراقيين السنة أن هذا الشرط سيحرج الأطراف العراقية الأخرى المشاركة في الحكم، فهم على وهم كبير. وإذا أعتقد هولاء الزعماء أنهم يزايدون في الوطنية على الآخرين، فهم، أيضا، على وهم. فالتاريخ يقول أن المقاومة المسلحة ضد القوات الإنكليزية في عشرينيات القرن الماضي انطلقت، أول ما انطلقت، من مناطق الشيعة في العراق، وأن زعيمهم محمد سعيد الحبوبي مات في طريق عودته من قتال القوات الإنكليزية، ولم يمت داخل سفارة إنكليزية.
ثم، وهذا أمر مهم، إذا رأى زعماء العراقيين السنة أنهم لم يحصلوا على حقوقهم كاملة، فعليهم أن يدركوا أن الولايات المتحدة، وليس أي طرف عراقي أخر، هي من يساعدهم على نيل تلك الحقوق. فجميع الأطراف العراقية مشغولة هذه الأيام بتحقيق مطالبها الخاصة بها. وكل طرف من هذه الأطراف لا يملك أكثر من ورقة واحدة، بينما تمسك أميركا بعشرات الأوراق. أميركا وحدها القادرة على فعل ذلك، ليس حبا في العراقيين السنة وبغضا للشيعة، إنما لخلق توازن عراقي، هي بحاجة ضرورية لوجوده، حتى تستتب الأمور في العراق.
ما تريده أمريكا هو، تثبيت مصالحها، وهي لن تتردد أن تقلب ظهر المجن للشيعة، متى ما أدركت أنهم يقفون حجر عثرة في تنفيذ مشروعها العراقي. وأميركا لها سوابق أشهر من نار على علم في هذا المجال. ولعل علاقتها مع صدام حسين وحركة طالبان مثالان جيدان. وهذا درس يبدو أن زعماء العراقيين الشيعة فهموه واستوعبوه، فأصبحوا هذه الأيام مثل كاسحة الألغام، ما أن تضع أميركا في طريقهم لغما حتى فجروه، بطريقة فيها الكثير من العقلانية والحكمة والصبر.
أما إذا ظل زعماء العراقيين السنة يراهنون على خلق فيتنام عراقية جديدة تغرق الولايات المتحدة في مستنقعها، فأنهم سيركضون وراء سراب. فالعراق ليس فيتنام، والزمن الآن ليس ستينيات القرن الماضي، والوضع الدولي ليس كما كان الأمر عليه في حقبة الحرب الباردة. بمعنى أكثر توضيحا:

1 / لا وجود لإجماع عراقي، كما في فيتنام لإشعال حرب عراقية شاملة ضد القوات الأميركية. والعمليات المسلحة ضد هذه القوات ما تزال تراوح في مكانها، إن لم تتقلص.
2 / لا وجود لفيتنام أخرى أو لصين شعبية جوار الحدود العراقية، إنما جوار العراق دول أقصى طموحها هو إرضاء أميركا، وطلب مساعداتها. فالأردن ألقى بكل ثقله لدعم العملية السياسية في العراق، والزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة الأردنية لبغداد خير دليل. وسوريا تريد وتحاول أن تتجنب الغضب الاميركي، بكل وسيلة ممكنة. وإذا جد الجد غدا وخيرت سوريا بين بقاء نظامها الحالي وبين دعمها للمقاومة العراقية، فأنها سوف لن تكتفي بتشديد المراقبة على الحدود، بل ستسير دوريات سورية اميركية مشتركة لمطاردة المسلحين حتى مشارف بغداد. والعربية السعودية مشغولة بمكافحة الجماعات الإرهابية التي اتخذت من الأراضي العراقية ملجأ لوجستيا لها. والكويت اختفت ثم أعيدت على الخارطة بفضل الجهود الاميركية. وتركيا ما تزال تتوسل واشنطن أن تضغط على الأوربيين لقبولها عضوا في الاتحاد الأوربي. أما إيران فأنها تتوقع الضربة الاميركية بين لحظة وأخرى، هذا إذا تجاوزت إيران العقبة الطائفية في القضية، وساعدت السنة.
3 / لا وجود لسياسة القطبين، عندما كان الاتحاد السوفيتي يصول ويجول ويهدد بصواريخه النووية العابرة للقارات، ويقدم مساعداته المادية والمعنوية، ويلوح بورقة الفيتو. وروسيا الحالية أقصى ما تريده هو، أن تغض واشنطن عينها عن ما تفعله في الشيشان. أما الصين، فأن ما يشغلها هذه الأيام ليس المقاومة العراقية، إنما كيف تقنع الولايات المتحدة بزيادة "كوتا" صادرتها التجارية.
4 / لا وجود لرأي عام دولي يكترث لما يحدث داخل العراق، مثلما كان الأمر مع فيتنام، حيث التظاهرات اليومية. وحتى الناس الذين تظاهروا سابقا، في دول الغرب وغيرها، ضد الحرب الاميركية في العراق، تراجعوا وبدأوا يخافون ويتقززون من رؤية الرؤوس المقطوعة بيد رجال المقاومة العراقية، وتفجيرات أنصار هذه المقاومة في شوارع مدنهم الغربية. أما "الشارع" العربي الذي قد تراهن عليه المقاومة العراقية في دعمه لها، فانه مات وشبع موتا منذ سنوات، ولم يبق منه غير أصوات تتصايح وتتعارك كما الديكة على شاشات الفضائيات العربية.
5 / نجحت امريكا، وخلال زمن قياسي، بتكوين جيش عراقي وشرطة وأجهزة أمنية أخرى، خففت وستخفف كثيرا العبأ على القوات الأميركية.
6 / وأخيرا، وهذا مهم جدا، فأن أمريكا لم تخسر، وبعد أكثر من عامين، سوى أقل من ألفين عسكري. وهذا الرقم لا يعادل جناح بعوضة في الحسابات الاستراتيجية. أما الخسارة المالية فهي، ليست خسارة، فما تنفقه أمريكا على قواتها داخل العراق، تعود فتسترجعه نقدا من الخزينة العراقية، على شكل شركات حراسة وبيع معدات عسكرية وتقنية، ناهيك عن الذهب الأسود المطمور تحت التراب العراقي، والتي تعرف اميركا أن التحكم فيه يعني التحكم بشرايين العالم كله.

هذه حقائق عارية على الأرض، لا يحتاج المرء إلى عدسات مكبرة لرؤيتها، أو إلى ذكاء خارق لإدراكها، وإنما يحتاج فقط إلى توفر رغبة ذاتية حتى يراها بسهولة. وقد تكون مرارة هذه الحقائق كمرارة العلقم، بل هي كذلك. ولكنها حقائق معقدة، والنظر إليها بتبسيط، أو التعامل معها على طريقة "الكونة" أو "الفزعة" العشائرية، يعني المراهقة السياسية بعينها.
بالطبع ، نحن نعرف أن التساؤل أو الاعتراض الذي سيقدمه البعض ضد ما قلناه توا هو: وهل يراد من الشعوب أن تقف مكتوفة الأيدي وتسلم أمرها، بخنوع، إلى ما تمليه عليها الولايات المتحدة ؟
ما قلنا هذا الكلام ولن نقوله. وما من أحد على هذه المعمورة يطالب أن تكون بلاده محتلة. وما من عراقي ينام رغدا، وهو يعرف أن الرصاص الاميركي سيصرعه صباح اليوم التالي، بمجرد أن يتجاوز، سهوا، مدرعة اميركية في شوارع بلاده.
كل ما قلناه ونقوله هو، أن هناك محنة عصيبة يعيشها العراقيون، وهناك دم عراقي يسفح يوميا، بل في كل لحظة، وبلاد تتقدم بسرعة مخيفة نحو الهاوية. والمهمة العاجلة والأكثر إلحاحا أمام جميع العراقيين هي، ليس كيف ولماذا حدث ما حدث. المهمة العاجلة هي كيف ننقذ ما يمكن إنقاذه، ونخرج من هذه المحنة بأقل خسائر ممكنة.

يتبع