لم يكن المثقفون الفلسطينيون، في يوم من الأيام، على مستوى تضحيات شعبهم، وقضاياه العادلة. قد يبدو هذا الرأي قاسيا ويفتقر إلى رحمة الملاحظة. لكن، دعكم من بداهات الوهلة الأولى التي كرّسها الإعلام المؤدلج، وتعالوا نتناقش: لماذا يصدر واحد مثلي مثل هذا الحكم؟
لن أتكلم ههنا ضمن مسرد تاريخي، فالحديث سيطول، وإن كنت آمل أن يتفرّغ لهذه المهمة، باحث أكاديمي شجاع، ذات يوم. بل سأحصر موضوعي زمنياً، في العشرين سنة الأخيرة، حيث كنت فاعلاً فيها وشاهداً عليها، بحكم الاختصاص والاهتمام.
أيام الاحتلال، أي تقريباً، في أوائل سبعينات القرن الماضي، بدأت تتبلور لدينا، ولو بشكل جنيني، إرهاصات حركة ثقافية ومناخ أدبي، للمرة الأولى منذ حرب حزيران.
كان لسان هذه الحركة، آنذاك، مجلة البيادر الثقافية الصادرة في القدس. وكانت بحق، جامعة لكل الطيف الثقافي الفلسطيني بالداخل، سبقها ورافقها احتضانُ مجلة الجديد وصحيفة الاتحاد، الحيفاويتين، لمعظم الأسماء الأدبية البازغة في ذلك الحين.
وكما قلت في مقال سابق، فقد كان كل أدباء تلك الفترة، من اليساريين الأيديولوجيين، الذين ينتمي غالبيتهم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وبقية المنظمات اليسارية الأخرى على الساحة. كان هؤلاء، إذاً، يصدرون في أدبهم، عن أيديولوجيا، خرج من تحت عباءتها، ما اصطُلحَ على تسميته ب "مدرسة الواقعية الاشتراكية" في الأدب. ولم يكونوا وحدهم، في هذه الخصيصة التاريخية، بل شاركهم إياها، معظم المثقفين العرب، من المحيط إلى الخليج، إذ كانت هذه المدرسة بمثابة الموضة الرائجة في ذلك الزمن.
بيد أن الفرق والفارق، بين أدبائنا وإخوتنا أدباء العربية في الخارج، أن إخوتنا، كانوا مزيجاً من اشتراكيين وشيوعيين ووجوديين وبعثيين وبوهيميين إلخ. في حين كنا نحن، يساريين عموماً، وشيوعيين خصوصاً. نكتب الأدب ضمن مواصفات تلك المدرسة، التي أثبت الزمنُ سريعاً، مدى تهافتها ومغالطاتها، قبل أن يشيخ تلامذتها، وتغرب شمس حياتهم المحدودة.
وأتذكر الآن، بعض الطرائف التي كانت تحدث، فأبتسم وأغفر ! فلقد كان ممنوعاً، باتفاق غير مكتوب، أن نقرأ لإحسان عبد القدوس مثلاً: فهذا " كاتب برجوازي، مائع ولا قضية حقيقية له ". بل أسوأ من ذلك، أن جبرا إبراهيم جبرا، هذا العَلَم التنويري الفريد، كان ممنوعاً علينا أن نقترب منه، فهو فلسطيني برجوازي، لا يقلّ سوءاً عن عبد القدوس !
ولا أخجل الآن من القول، إن قراءة جبرا في ذلك الزمان، كانت ضرباً من عار ثقافي، لا يليق بمثقف
"مناضل" يعيش تحت حراب الاحتلال، أن يُضبط متلبساً به!
رحم الله أحدهم، وكان قطباً شيوعياً وشاعراً يُشار له بالبنان، إذ وبّخني يوماً، لأنني زرته في بيته، وفي يدي كتاب لجبرا العظيم. أقول هذا، ليس تنكيلاً بأحد، وإنما، فقط، لأشير إلى سذاجات وصبيانية ذلك الزمان الثوري النقي، حدّ الغباء والعمى.
لقد كان مثقفونا، مع احترامي لبعضهم، أصوليين، بالمعنى الديني للكلمة. ولهذا السبب تحديداً، لم يكونوا أبداً، بحجم معاناة شعبهم ولا على مستوى هذه المعاناة. فهم لم يكونوا ليُنصتوا إلى دخائلهم وأصوات الإنسان الكوني فيهم، وهو بين شقيّ هذه الرحى، بل كانت آذانهم، غالباً، وديعة عند قياداتهم السياسية، بوعيها البسيط، الأحادي، إلخ.
لذا، لم تنتج تلك الفترة، من أوائل السبعينات حتى اتفاقية أوسلو، سوى آحاد من الأعمال، التي تليق بهذا الشعب، فيما ذهبت غالبية تلك الأعمال الأدبية، إلى سلة النسيان. وهذا ليس بدعاً في التاريخ، فالوعي الفقير ينتج الأعمال الفقيرة، في متوالية حسابية لا تنتهي.
لقد كانوا _ أدباء تلك الفترة _ نوعاً من القدر التاريخي، كأدباء ضرورة. كان لا بد من وجودهم ليملأوا ذلك الفراغ الأدبي والثقافي، خصوصاً بعد أن غادر كل أدباء النكبة، البلاد، مهاجرين إلى الشتات العربي، بعد كارثة حرب الأيام الستة.
كان أذاً ثمة فراغ، وكان لا بد من ملئه ! ومن مصادفات التاريخ، أن ملأه أدباء كلهم تقريباً من شريحة معلمي المدارس. فلكم أن تتخيلوا، ماذا يمكن أن تنتج هذه الشريحة، التقليدية في العموم، وقد لبست ثوباً أوسع من ثوبها، بل ليس أوسع فحسب، إنما هو ليس ثوبها بالأصل والفصل ! طبعاً ليس من المنطق أن نمنع عن شريحة المعلمين، حقهم في إنتاج الوعي والفن، فمعظم الأدباء العرب، خرجوا من تحت عباءة هذه الشريحة، لكنما القصد، أن نوضّح في هذا السياق، حقيقة تاريخية، قبل أن نهتمّ بمسألة التأويل والتحليل، اختلافاً واتفاقاً.
جاءت أوسلو، بعد ذلك، فجاء أدباء الثورة من تونس، وكنا ننظر إليهم، كأساتذة لنا، وكروّاد وأصحاب خبرة وقامات عالية، إلى أن رأينا ممارساتهم على الأرض، فكفرنا بهم وبماضيهم وبأدبهم، كفرنا، ولكن، رويداً رويداً، وعلى فترات !
أما نحن ههنا في الداخل، فقد ذهب معظمنا إلى السلطة الوليدة، بما هي حاملة ميراث منظمة التحرير _ العجل المقدس ثقافياً _ وتماهينا معها. تماهينا معها وهي تتحوّل من ثورة إلى سلطة، ومن سلطة على شعب منقوص السيادة، وجائع ومنهك، إلى سلطة مماليك جديدة، أعادت زمان المماليك، وأحيت دولتهم الغابرة !
صار مثقفونا مثقفو الداخل، يرون وزير ثقافتنا وهو يمشي، ومن حوله عشرات المرافقين، والهوجة الكذابة، فلا يرتاعون من هذا المنظر، بل ينضم بعضهم أو أكثرهم له، ليصيروا مرافقين إضافيين في الجوقة التافهة.
فالكل يحلم بمنصب أو جاه، حتى أولئك الموظفون في وكالة الغوث، والذين يتمتعون ببحبوحة في العيش، يغبطهم عليها الناس.
صدّق مثقفونا المسرحية إذاً ! فما زالت هالة الثورة القديمة، تغطي وعيهم البائس، رغم أن كل شيء ينفي هذه الهالة: من وجود الاحتلال والحواجز على الأرض، إلى سلوك القادمين المخزي والمشين، وهم المصابون بشيزوفرينيا أنهم مرة وزراء ووكلاء وزارة داخل أرض "محررة"، ومرة أذلاّء على حواجز عسكرية إسرائيلية، تتحكّم فيهم أحياناً مجندة شابة، فتؤخرهم بالساعات. وما إن يغادروا الحاجز، حتى تعود لهم عنجهيتهم فيصرخون بالمرافق، وينهرون السائق، إلخ إلخ ! إنه، كما نعرف، سلوك تعويضي، ثم إنهم أسياد من يكذّبون الكذبة ويصدقونها هم نفسهم قبل الآخرين !
هكذا هو حالنا وحال مؤسستنا الثقافية الرسمية، وهكذا هو حال معظم أدبائنا. فكيف ستنتج هذه الشريحة، التي لم تكن في يوم من الأيام، على مستوى مأساة شعبها، أدباً يُشار إليه ببنان الأدب الرفيع!
كلا ! فكل إناء بما فيه ينضح، كما يقول المثل الشائع. ولذا، يتفوّق الأدب العبري، من شعر وقص وسرد ونصوص، في مجمله، إنسانياً، على أدبنا. وذلك لسبب بسيط، وهو أن منتجي ذلك الأدب، أفراد أحرار ومهنيون حقيقيون: مهمومون بالإبداع، ومطّلعون على آداب العالم، وعائشون في قلب العصر، ومتابعون جيدون لكل ما يصدر من مختلف ضروب الثقافة العالمية. فيما نحن، لا يتقدم وعينا على وعي سياسيينا، من ذوي الحناجر الغليظة، إلا في النادر. فكيف لمثلنا أن يقوم بمهمة جد خطيرة وجليلة معاً: وهي التعبير عن وجدانات وهموم شعب معذب صاحب أعدل قضية في التاريخ وأسوأ محامين ومتأدبين !!
من حسن حظنا، وبعد أن حدث ما حدث، وبالذات في زمن الإنترنت، أن جاء إلينا الآن، جيل من الأدباء الشباب، الوجودي المعذب الملتبس، العميق معرفياً وداخلياً، والذي وضع ميراث هذه الثورة الخاسرة وراء ظهره، لكي يكتب، كما يكتب جيله العربي والعالمي: من الهامش، بعيداً عن القوالب الجامدة والأيديولوجيا الزاعقة. إنني شخصياً أراهن على هذا الجيل، رغم سوء ظروفه المعيشية، ومعاناته من البطالة والفقر وانسداد الأفق، بعد أن فشلت مراهناتنا على الأجيال السابقة: أجيال الأدباء السياسيين، التعبويين والأصوليين، أو المناضلين بين مزدوجيْن. الذين سكتوا الآن، وذهب ميراثهم إلى أربعة أركان الريح، غير مأسوف عليه..فالحياة عادلة، وما يستحق البقاء يبقى، ولا مجاملات في التاريخ ومع التاريخ، وبالأخصّ إذا كان الحديث يدور حول محور الآداب والفنون.