إذا كان أساس الأزمة بالعراق سابقاً يكمن في مركزية الدولة وغياب الدستور الدائم، فإن العراق الديمقراطي أقر دستوره الدائم وأصبحت الصفة الأتحادية (الفيدرالية) للدولة خياراً للنظام الجديد وفقاً للدستور ذاته. لكن ورغم ذلك نجد بعض الاتجاهات السياسية ما تزال ترفض هذا الخيار محاولة تغيير الدستور بما يجعل حق الفيدرالية مقتصراً على الأكراد فقط، باعتبار (أن العرب أكثرية فهم لا يحتاجون للفيدرالية وبوسعهم الأكتفاء بالحكم المحلي للمحافظات)!! وقد تصاعدت وتيرة هذا المطلب مع إعلان (المجلس الأعلى للثورة الأسلامية) قبل شهور لمشروع إقامة فيدرالية في المحافظات التسع الممتدة من البصرة إلى بابل وفقاً للدستور الذي يسمح بإقامة فيدرالية في محافظة واحدة أو أكثر، معتبرين أن فيدرالية كهذه هي مقدمة لتقسيم العراق على أساس طائفي. وهذا الأمر أن بدا محتملاً لكن أحداً لا يملك دليلاً قاطعاً عليه، بالإضافة إلى كونه يحتاج إلى أستفتاء قد لا تكون النتيجة لمصلحته. لكن البعض يفسر تصاعد هذا القلق بأن المحافظات التسع تحتوي على معظم ثروات العراق الطبيعية والزراعية، ما يجعل محافظات أخرى تقطنها غالبية سنية في حالة اقتصادية لا تحسد عليها في حالة حدوث تقسيم العراق، وهو أمر غير وارد واقعياً لأسباب داخلية ودولية لأن العراق المقسم سيكون لقمة سائغة للدول الأقليمية الكبرى وهذا سيقلب الخارطة السياسية للمنطقة رأساً على عقب الأمر الذي لا يمكن أن تسمح به القوى الدولية. لكن هناك أعتراض آخر من داخل المحافظات التسع على مشروع الفيدرالية المقترحة، وهو أن فيدرالية كهذه ستحول العرب من المسلمين الشيعة إلى قبيلة سياسية بغية السيطرة عليهم سياسياً من قبل جهة إسلامية محددة، ما سيُضعف حق المشاركة وظاهرة التعددية أساس المشروع الديمقراطي، وسيحل القمع السياسي والأيديلوجي محل أي تطور ممكن في الحياة الروحية والثقافية لسكان المحافظات التسع، وستكون الأبواب مفتوحة للتدخل الإيراني ما سيضر باستقلال الدولة العراقية ومصالح جميع العراقيين. وواقعياً فأن القلق المصاحب لهذا التصور يبدو مبرراً أكثر من سواه، والحديث المتواتر عن التدخلات التي رافقت الانتخابات الأخيرة لمصلحة قائمة معينة يجعل هذا القلق أكثر واقعية. وفي الحالتين فأن المشكلة قائمة في الشارع العراقي وهي تُستغل بشكل واضح من قبل الأرهابيين، ما يجعل التفكير بحل عملي يرضي الجميع ولا يخل بمصالح أحد، أمراً ضرورياً.

الحل لا يكمن في أقتراح دأبت عليه قوى سياسية سنية وشيعية وليبرالية، ومفاده: بقاء الفيدرالية الكردية فقط واكتفاء المحافظات الأخرى بالحكم المحلي (اللامركزي)!! لأن هذا الشكل من الحكم غير موجود في أي بلد آخر في العالم، لأنه ndash; كما تقول قوى سياسية عديدة - يجعل معادلة توزيع السلطة بين الأطراف العراقية مختلاً لمصلحة الجبهة الكردستانية التي تحكم كردستان العراق لوحدها وتساهم في حكم بقية الدولة العراقية عبر وجودها في السلطة المركزية، وهو أمر غير متاح للأطراف الأخرى. لكن لا أحد يشير إلى كون سبب هذا الخلل لا يعود للأكراد بل لموقف السياسيين العرب غير العملي من قضية الفيدرالية. ففي الدولة الأتحادية توجد سلطة مركزية تتمثل فيها جميع الأطراف وفقاً للأستحقاق الأنتخابي أو التوافق السياسي، إلى جانب السلطات المحلية في كل وحدة فيدرالية. فالأكراد يمارسون حقهم الدستوري مركزياً وفيدرالياً بينما يكتفي العرب بحقهم في السلطة المركزية دون أن تكون لديهم فيدرالية خاصة!! ونظراً لتعقيدات الموضوع التي أوردناها أعلاه، نجد أن الحل العملي يكمن في المشروع التالي : وهو إقامة فيدرالية ثانية تشمل المحافظات الثلاثة عشرة التي تسكنها غالبية عربية، بينما تنتظر كركوك الحل المؤجل مؤقتاً، في حين تأخذ بغداد وضعها الخاص كعاصمة مركزية للعراق.

أن توزيع سلطات الدولة ضمن هذه الصيغة سيأخذ طبيعته الدستورية بين المركز والأطراف، دون وجود خلل لمصلحة أي طرف، كما يكفل الدستور حقوق المكونات الأخرى وفقاً للنصوص الحقوقية المعروفة. وفي الوقت الذي تنهي فيه هذه الصيغة مبررات قلق المحافظات السنية، فهي والمحافظات الشيعية ستجد تمثيلها الواقعي في مجلس نواب واحد ينبثق عن الفيدرالية الثانية بالشكل الذي تعكسه الأنتخابات الدورية، إلى جانب التشكيلات الأخرى، دون أن يستطيع أي طرف الأدعاء بإمكانية عودة الصيغة المجحفة للأنظمة السابقة لأن الأجحاف قد ذهب مع ذهاب مؤسسات تلك الأنظمة دون رجعة.
أن هذه الصيغة بقدر ما تكفل استمرار التعددية السياسية فهي المناخ الأكثر ملائمة للتنمية السياسية المطلوبة دائماً وفقاً لمبدأ المشاركة على أساس المواطنة. الأمر الذي سيضعف النزعات الطائفية لمصلحة مبدأ المشاركة الديمقراطية المستند أيضاً إلى وجود الحكم اللامركزي في كل محافظة.

أن هذه الصيغة تبدو أكثر واقعية ومرونة من سواها، وهي الكفيلة بتنشأة ثقافة وطنية تتلائم مع طبيعة الدولة الأتحادية الديمقراطية، وستشكل البديل العملي للثقافات الطائفية والعنصرية التي مارستها الأنظمة السابقة والتي يريد البعض في المنطقتين إعادة إنتاجها صراحة أو مداورة الأمر الذي يفسح المجال واسعاً للتدخلات الخارجية السبب الأساسي في مآسي العراقيين المستمرة. أن هذا المشروع الوطني بقدر ما هو قابل للنقاش، بقدر ما هو بحاجة إلى التبني من قبل الفعاليات السياسية أو منظمات المجتمع المدني الأخرى، التي تقتنع بجدواه وأهميته لكي يتم عرضه على مجلس النواب القادم كبديل للمشاريع التي أثارت لغطاً وعلامات استفهام ومعارضة سلبية منذ لحظة الإعلان عنها. فالعراقيون أما خيارين أما أن يعتمدوا على مشاريع وطنية تدعم وحدتهم وتقر بتعدديتهم السياسية أو أن يظلوا خاضعين لحالة التطير السياسي والمخاوف والظنون الموروثة من عهود الأستبداد فيعيدون إنتاج نفس الثقافة البائسة التي سوف لن تنفع أحداً بل ستضر الجميع. أن العراق ليس ملكاً لطائفة أو قومية أو حزب أو قائمة إنتخابية بل هو ملك لجميع العراقيين، وهو بشكل خاص ملك للأجيال العراقية القادمة، وهنا تكمن مسؤوليتنا الأخلاقية والتاريخية : هل سنترك لهم عراقاً مُثقلاً بأمراض العهود السابقة أي بالانقسامات الطائفية والسياسية والتدخلات الخارجية، أم نقدم لهم عراقاً أقل أزمة وأكثر انفتاحاً وإمكانية للتطور والتقدم؟!