نشرعصام عبدالله و كامل النجار) مقالين بإيلاف أخيراً، تناولا فيه الاعتقاد الديني من جوانب مختلفة، اتفقا في بعضها واختلفا في البعض، وليسمحا لي أن أشاركهما النقاش، لو في نقطة واحدة أجتزئها من طرحهما الراقي والمميز، والمتعلقة باختلاف رؤيتهما حول أهمية الدين ودوره في عصرنا الراهن، ولنستعرض هذا الخلاف من مقالة د. كامل النجار بعنوان: quot;الاعتقاد ليس ضرورة لإنسان اليومquot;:
quot;ويقول د. عصام: quot; والإنسان لا يستطيع أن يعيش يومًا واحدًا دون الاعتقاد في شيء يجلب له الطمأنينة، ذلك أنه لا يحرك الأحداث والمصائر والمقادير وفق مشيئته. فالاعتقاد ليس زخرفًا يتحلى به الإنسان، بل هو قوام جوهري لاستمرار الحياة، فاللحظة التي يفقد فيها المرء قدرته على الاعتقاد تكون هي ذاتها اللحظة التي يجن فيها، أو ينهي حياته عندها دون تردد على الإطلاق. quot; وأعتقد أن هذه المقولة مبالغ فيها بعض الشيء إذ أننا نعرف من تجاربنا اليومية أن الطفل يحتاج إلى ما يُطمئن قلبه ويجعله يخلد للنوم إذا لم يكن جائعاً. . . . وهكذا كان حال الإنسان البدائي الذي لم يكن ذهنه قد نما ليفهم ما حوله. . . . . وإنسان اليوم يستطيع أن يعيش دون الاعتقاد في أي شئ بدليل الأعداد المتزايدة من اللادينيينquot;.
المقالان بوجه عام لم يتعرضا للأديان في حد ذاتها، من حيث تناولها بالنقد العقلي، وهذا جيد من وجهة نظرنا لأمرين، أولهما أن العقائد حقائق ثقافية مغروسة بعمق في المكونات الأدبية لمختلف الشعوب، والمقاربة النقدية العقلية منها لا تثمر في العادة إلا إثارة الجدل، الذي يكون في الأغلب غير مجد، وربما يصح وصفه في بعض الحالات بالمدمر، والثاني أن الأديان تنتمي إلى مجال آخر غير مجال العقل، وهو مجال الإيمان، والعقل كما قال كانط، غير مؤهل للنظر فيما وراء الطبيعة، رغم ما يصر البعض على تأكيده، من أننا نستطيع بالعقل إدراك حقائق الإيمان، ومن الصحيح ما أورده د. عصام عبد الله في مقاله: quot;أن الكل في النهاية يؤمنون بكائن واحد، غير معروف، أبدي، يفوق التصور والفهم، وأبعد كثيراً عن متناول العقل البشريquot;.
لكن المقالين الذين تحاشيا التعرض للدين في ذاته، قد تناولاه من حيث مهمته الوظيفية، أي تطبيقه العملي، وهو ما يصح أن نسميه بالتدين، الذي هو من جانب تأثير الدين في الناس فكراً وممارسة عملية، ومن الجانب المقابل فهم الناس بتعدد مشاربهم للدين، واستجابتهم العملية لهذا الفهم.
هنالك إذن وجهتان نظر في دور التدين في حياة الشعوب، الأولى ترى أهميته الوظيفية لحاجة النفس البشرية إلى دعم خارجي ولو معنوي، يعينها على مجابهة مصاعب الحياة، والثانية ترى أن هذا كان صحيحاً في مرحلة طفولة البشرية، وضعف إمكانيتها في مواجهة ما يعترضها، وهو ما تغير الآن بتقدم العلوم والتكنولوجيا، ولا نستطيع مع الأسف الاتفاق مع أي من وجهتي النظر.
فوجهة النظر الثانية تفترض -بغير سند من الواقع- تعميماً على جميع الشعوب، بالتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يمنحها القوة الذاتية، بما يغنيها عن الاحتياج إلى سند ميتافيزيقي، وهذا إن كان يصح في بعض الحالات، فإنه لا يقوم سنداً على صلاحيته لحالات أخرى، هي الأغلب والأعم، لشعوب ترزح تحت نير التخلف وعدم القدرة على التحكم بحياتها، بحيث لا يتبقى لها غير السلوى الميتافيزيقية كبصيص أمل، حتى لو أطلق عليه البعض اسم السراب.
هنا يصح القول أن تعلق تلك الشعوب برؤاها الميتافيزيقية يقعدها عن السعي لامتلاك أسباب القوة المادية، الكفيلة وحدها بتغيير أوضاعها إلى الأفضل، وأن حرمانها من تلك السلوى هو المقدمة الأولى، لمواجهة ما عليها أن تواجهه في رحلة الألف ميل، لكن يصح أيضاً أن ننتبه أننا بهذا الجدل نكون قد وصلنا إلى السؤال الخالد: البيضة أولاً أم الدجاجة؟ ، وإلى أن نجد إجابة لهذا التساؤل لا بأس أن يظل الجدل قائماً!!
أما وجهة النظر الأولى، فترى التدين وسيلة لدعم الأخلاق والقيم في المجتمع، كما جاء في مقال د. عصام عبد الله: quot;في الفصل الثاني عشر من الكتاب الأول من المطارحات quot;يضع لنا مكيافيللي المبادئ التي تحفظ الدولة من الفساد. وأول مبدأ في نظره هو المحافظة على شعائر الدين، أي دين، إذ أنه لا يقصد دينًا معينًا بالذات، وإنما الدين بصفة عامة. كما لا يبدو من كلامه أنه يتحدث عن الشعائر كمجرد مجموعة من الطقوس، وإنما يقصد البنية الأساسية في كل دين.quot;
لكن واقع الممارسة العملية للتدين يكشف لنا في أغلب الأحوال عن حدوث تبادل للمقولات بين الغاية والوسيلة، فشعائر وطقوس الأديان المستثناة من القصد في العبارة السابقة، تتحول في الأغلب فعلياً إلى غاية في ذاتها، أو تتحول من وسيلة لتحقيق الغايات العليا للدين وللقوة المتسامية التي تعطيه شرعيته، إلى وسيلة لتملق أو استرضاء الكائن الأعلى، لتحقيق منافع دنيوية أو أخروية، وفي أثناء هذا ولأغراض بشرية شتى تتحول وصايا الدين وطقوسه، لتفرغ من محتوياتها الأخلاقية المتسامية، إلى حد استحداث تفسيرات لها تفضي إلى عكس المفترض الأصلي منها، وهذا عين ما تعانيه الإنسانية حالياً من تلك الجماعات التي تدعي استرضاء الله بأعمال قتل وحشية، بل تستنكف منها الوحوش، والجدير بالتنويه هنا أن الأمر لا يتعلق بخطأ التفسير أو ممارسة التدين، بقدر ما يرجع إلى انقلاب المقولات، وتحول الوسيلة إلى غاية، بما يؤدي إلى حرماننا من حق محاكمتها على ضوء نتائجها العملية.
ربما يكون لدى باروخ سبينوزا (1633-1677م) ما يتفادى الخلاف بين وجهتي النظر السابقتين، ليس بالعثور على حل توفيقي يجمع المتناقضات، وإنما برؤية مخالفة تماماً للأمر، تحل معضلة ربما أوجدها الإنسان بذاته، بخلقه ثنائية وهمية ليسقط بين براثنها، وهي ثنائية الطبيعة وما وراء الطبيعة، أو الإنسان والطبيعة، أو الكائن المتسامي والطبيعة، أو الكائن الأدنى والأعلى، هي عدة تباديل ثنائية بين الأقطاب الثلاثة: الطبيعة والإنسان والإله المتسامي.
الحل الذي يبدو عبقرياً يعرضه لنا سبينوزا في مفهومه عن الجوهر، والذي quot;يشير به إلى بناء الوجود ذاته الكامن تحت كل الأشياء والحوادث، والذي يشكل لب العالم. ولكن سبينوزا يمثل الجوهر بالطبيعة والله. وهو يتصور الطبيعة أو الكون ذات مظهرين، فهي فعالة حيوية خالقة من جهة، وهي منفعلة مخلوقة من جهة أخرى، وأن هذا الجانب المنفعل هو المادة وما تشتمل عليه الطبيعة من غابات وهواء وماء وجبال وحقول وعشرات الألوف من الأشياء الخارجية. وهذه الطبيعة كلها من إنتاج الجانب الفعال وخلقه، وعندئذ يكون في الكون قوة خالقة تخلق الأشياء، وهي التي يسميها quot;جوهر وهي اللهquot;، وفيه أشياء مخلوقة وهي الأعراض أو العالم.quot; قصة الفلسفة- ول ديورانت.
ويترتب على هذا كما يقول سبينوزا في رسالته عن الدين والدولة: quot;إنني أقصد بمساعدة الله، نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو سلسلة الأحداث الطبيعية.quot;
وفق هذه الرؤية يمكن التخلص من إشكاليات عديدة، منها على المستوى النظري التخلص من ثنائية العقل والإيمان، التي تلزم العقل بالتزام منطقة نفوذه أو صلاحيته، وتتيح في المقابل تحت مظلة أو دائرة الإيمان تسلل مفاهيم مادية، تدعي على ما وراء الطبيعة تصورات مادية أقل ما تنعت به وصف الخرافة، ليكون الحل السعيد هو توحيد الطبيعة وما وراء الطبيعة داخل دائرة واحدة، بمفهوم وحدة الوجود، والذي تمثل فيه quot;الأعراضquot; الطبيعة الشاملة لكل ما تدركه حواسنا، ويمثل quot;الجوهرquot; ما وراء الطبيعة، أي القوانين الفاعلة والمحركة للنظام الكوني.
وعلى المستوى العملي يصير التدين وفقاً لرؤية سبينوزا هو اكتشاف قوانين الله العاملة في الطبيعة وإطاعتها، وهي طاعة يمكن ألا نراها جبرية مادية، وإنما تتبدى في الاستخدام الأمثل لما نكتشفه من قوانين، لتسخيرها لتحقيق حياة إنسانية أكثر غنى ورفاهية، وهنا يكون استرضاء الكائن الأعلى ليس عبر طقوس وشعائر، بقدر ما يتحقق بالنجاح في الاستخدام البرجماتي quot;للأعراضquot; عبر قوانين quot;الجوهرquot; وآلياته، لتحقيق السعادة الإنسانية.
لا نزعم أن سبينوزا قد نجح مرة وإلى الأبد في حل جميع إشكاليات العلاقة بين الدنيا والدين، أو بين العقل والإيمان، بل وربما رأى البعض أنه قد خلق إشكاليات جديدة، تجعله في مرمى سهام أهل الدنيا وأهل الدين أو أهل العقل وأهل الإيمان!!
التعليقات