قد أبدو متطرفا ومتشنجا في وصف حال جابر الأحمد الصباح أمير الكويت الراحل في سياق التسامح الذي يحمله هذا الإنسان العظيم، لكنها الحقيقة بعينها.
وقد أبدو مجاملا تجاهه لأنه أمير بلادي، وبسبب الأجواء الحزينة التي لفت وطني والأوطان الصديقة والشقيقة، ولأنه ليس إلا وقت الكلام الجميل والعاطفي، لكن الحقيقة لا يمكن إلا أن تكون أقوى وأعلى من أي كلام جميل أو تطرف عاطفي أو تمييز وطني.
فلا شك أن تسامح الأمير الراحل تغمده الله بواسع رحمته يشهد عليه عدوّه قبل صديقه، ويشهد عليه السني والشيعي، الحضري والبدوي، المواطن والوافد، الكويتي وغير الكويتي، الإنسان في شتى بقاع المعمورة، فهلاّ تكفي تلك الشهادات؟.
ولست بصدد طرح جميع الوقائع التي تشهد على تسامح الأمير الإنسان، لأنها غير منتهية على الصعيد القريب، وتحتاج إلى جهد كبير على المدى البعيد، بل جل ما أسعى لتبيانه هو بعض الوقائع المؤثرة التي قلّما تصدر عن الشخصيات السياسية على مر التاريخ.
فمعروف أن حادث الاعتداء الآثم الذي تعرض له الأمير الراحل عام 1985، أثناء ما كانت نار الحرب العراقية الإيرانية مستعرة، كان يقف خلفه فصيل مسلح تابع لحزب الدعوة الإسلامية، أحد الأحزاب الرئيسية في الائتلاف الشيعي الحاكم في العراق، وهذا الفصيل اعترف بخطأ ارتكابه لجريمته الشنيعة، وقبِل الأمير بذلك في موقف يعبّر عن تنازله عن مصلحته الشخصية وتضرره الشخصي في سبيل مصلحة الكويت العليا. فبعد أن فتحت الكويت بأمرٍ من الأمير الراحل حدودها وأرضها لمختلف التنظيمات العراقية المناهضة لنظام صدام حسين للمشاركة في اسقاط هذا النظام الدموي، كان من بين تلك التنظيمات أن استقبلت الكويت بكل ترحاب حزب الدعوة حيث أشارت الأنباء الخاصة إلى اعتذار جاء به رموز الحزب إلى الكويت. ثم بعد سقوط صدام كان رئيس الحكومة ابراهيم الجعفري العضو البارز في الحزب محل ترحيب في الكويت وفي إطار تقديم اعتذار لقيادتها. وإن يدل ذلك الأمر على شيء فإنما يدل على مكانة التسامح العالية التي كان يحملها سمو الأمير الراحل وتنازله عن حقوقه الشخصية من أجل مصلحة الكويت والكويتيين ولدحر الظلم عن كاهل شعوب شقيقة.
ولا ينسى الكويتيون أحداث التفجيرات التي شهدتها البلاد أثناء الثمانينات والتي كان يقف خلفها تنظيم سياسي مسلح ينتمي إليه كويتيون، حيث تم اعتقال معظم هؤلاء وتم الحكم على بعضهم بالإعدام والبعض الآخر بالسجن لمدد متفاوتة، إلا أن مصلحة الكويت التي كان يغلفها تسامح الأمير قضت بعدم تنفيذ تلك الأحكام وبالتنازل عنها بعد تحرير الكويت عام 1991.
إن مظاهر تسامح جابر الأحمد ارتسمت في الكويت واتجاه أبنائها قبل أن تخطو بخطواتها خارج أسوار حدودها. فرؤاه البعيدة النظر تجاه الأحداث المحلية وصراعاتها وتطورات أوضاعها السياسية أثبتت في أكثر من مناسبة أن مصلحة الوطن فوق كل شئ حتى لو ارتبط الموضوع بالخصومة السياسية الداخلية. فحوادث عديدة أثبتت أن الأمير الراحل كان خلالها مثالا بارزا للتسامح، يأتي على رأسها حادث الاعتداء المسلح على النائبين السابقين في مجلس الأمة حمد الجوعان وعبدالله النيباري اللذين بعثهما الأمير الراحل للعلاج في الخارج على نفقته الخاصة، وكذلك أمره السامي بإطلاق استاذ العلوم السياسة الدكتور أحمد البغدادي من السجن بعد مكوثه فيه لأسبوعين في حكم تعلق بأمر من المحكمة بالسجن شهرا جراء خصومة مع الجماعات الدينية.
كما أن هناك العديد من الأمثلة المرتبطة بحرصه على مصلحة الشعب الكويتي قبل مصلحته بل وقبل وضعه الصحي ما يدل على إنسانيته. من تلك الأمثلة ما ذكره وزير الصحة السابق أثناء رحلة علاج الأمير عام 2001، فيقول الجارالله التالي:
quot;في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل تلقيت اتصالا من الديوان الاميري يفيد بمرض سمو امير البلاد، وانطلقت مسرعا الى قصر دسمان للوقوف على حالته الصحيةquot;.
ويضيف quot;دخلت على سموه فجرا، ولم اتوقعه بهذا الهدوء، وتلك السكينة، كان سموه يشكو من تشنجات في قدمه اليمنى، وبعد ان اكتمل الطاقم الطبي، اقروا نقله الى المستشفى الاميري، حيث عملت له الاشعة المقطعية، والتي تبين من خلالها اصابة سموه بنزيف في المخ، الا ان حالته بشكل عام كانت مستقرة وساعد هدوؤه ورباطة جأشه على تحسن حالتهquot;.
واضاف quot;وهنا كان رأي الاسرة نقل سموه الى لندن للعلاج، حيث الاجواء اكثر هدوءا منها في الكويت، خصوصا ان حالته كانت مستقرة وتسمح له بالسفرquot;.
واثناء الرحلة بالطائرة الى لندن يقول الجارالله: ان الخوف كان يتملك الجميع بأن يعود النزيف الى سمو الامير، حيث حرص الجميع بالابتعاد عنه ليرتاح طوال الرحلة، ولم يتخلل الرحلة اي احاديث مع سموه الا انه طلب اشياء ضرورية يحتاجهاquot;.
وفي اول يوم للأمير في المملكة المتحدة يقول الجارالله: ان الامير توجه فورا الى مستشفى كرومويل ووضع في جناح العناية الفائقة فقط للإطمئنان على صحته مما نتج عنه ضجة كبيرة بان حالتة خطرة حيث وضع في جناح العناية الفائقة. وكان مستشفى كرومويل وقتها مركزا لمندوبي وكالات الانباء والقنوات الفضائية، وأقنعتهم بان صحة الأمير بخير وان وجوده في العناية الفائقة ليس لأن حاجته تدعو الى ذلك انما لتقييم حالته، ووضعته تحت الملاحظة الدقيقة اول يوم، واكدنا لهم ان حالة سموه مستقرة وانه يتجاوب مع العلاج، وبعد ان قضى 24 ساعة في العناية الفائقة تم تحويله الى الجناح.
واوضح ان quot;حالة سموه في الايام الثلاثة الاولى كانت جيدة.. الا انه كان يشعر بدوخة بسيطة لا تصل الى الاغماءquot;.
ويضيف ان الأمير كان حريصا على تفقد احوال المرافقين معه بقدر ما هو حريص على صحته، وبدل ان نطمئنه عن حالته الصحية كان يبادرنا بالإجابة ان صحتة بخير والا نقلق عليه، وكان كثير السؤال عن اهل الكويت واحوالهم.
وذكر الجارالله ان الفريق الطبي اثناء فترة العلاج طلب ادخال انبوب من الانف الى المعدة للتغذية خاصة ان سموه قليل الاكل، وبدوري قلت للامير اننا بحاجة الى وضع هذا الانبوب لتتحسن صحتك، ورد طلبي له بسؤال.. quot;هل اعطيتم كل فرد من الشعب الكويتي انبوبا للتغذية 00quot; فهو يطلب ان يعامل مثل اي مواطن كويتي.
وفي احد المواقف التي تدل على انسانيته اثناء فترة العلاج، يقول الجارالله انه عند نقل الامير في سرير متحرك من جناحه الخاص في المستشفى الى جناح الاشعة، وقعت قطعة كبيرة من السرير، واختل توازنه وكاد سموه ان يسقط لدرجة ان قدمه لامست الارض، وهو لا اراديا يسأل عن افراد الطاقم الطبي عما اذا اصيب أحد منهم، وفي اللحظة التي اصبنا فيها بالهلع على سموه نجده يفكر فينا وفي سلامتنا لدرجة ان رئيسة فريق التمريض تسألني: quot;هل سموه زعل؟ وقلت لها انه لم يزعل، بل يسأل عن سلامتكمquot; فاستغربت من الموقف وقالت انه رجل عظيم.. حتى انه يفكر فينا، وهو في هذه الحال.

كاتب كويتي
[email protected]