ما يجري داخل حماس، أمر يستحق المتابعة. فثمة تيارات في حماس، لا تيار واحد. وثمة قوى متنابذة، لا قوة واحدة متناغمة منسجمة. رغم حرص الحركة، على الظهور، بمظهر أن جميع أعضائها، يعملون ويتصرفون، وكأنهم على قلب رجل واحد. ولعل الانتخابات التشريعية، والموقف منها، هو ما فجّر خلافاتهم واجتهاداتهم وأظهرها على السطح. إذ نعرف جميعاً، أن الحركة، حرّمت، على أساس ديني، المشاركة في انتخابات عام 96، بدعوى أنها تجري، وفق وضمن اتفاقيات أوسلو، المرفوضة من قبلها. ثم تغيّر موقفها تماماً، مع انتخابات 2006، ورغبتها القوية، في خوض هذه الانتخابات، والدخول في السلطة وتشكيل الوزارة القادمة.
فما الذي حدث حتى تقبل الحركة، بما رفضته، قبل عشر سنوات؟ هذا السؤال تحديداً، ساهم، أكثر من غيره، في إبراز خلافات حماس الداخلية، وفي الحديث عن المسكوت عنه، داخل الحركة. خصوصاً وأنها لم تهيىء الأجواء، أمام منتسبيها تحديداً، لمثل هذه الانقلابات في المواقف!
والمسكوت عنه، كثير وحقيقي، ولا مجال لتجاهله، بعد اليوم. فقد أعلن أحد كبار رموزها وقادتها الدعويين، قبل أيام، عن تحريم الانتخابات الحالية للمجلس التشريعي، وأصدر فتوى دينية بذلك. قائلاً إن شيئاً لم يتغير منذ العام 96. وداعياً إلى مواصلة طريق ونهج المقاومة، كطريق واحد ووحيد أمام جماهير الحركة، وأمام مجموع الشعب الفلسطيني.
أما كتائب القسام، الجناح العسكري للحركة، فله أيضاً عدة تمايزات واختلافات عن القيادة السياسية. فتيار منه يشكو، من أنّ أحداً من أعضائه ومناضليه، ممن قدموا الغالي والنفيس للحركة، لم ينزل على قوائم الترشيح. كما فعلت الحركات الوطنية مع مناضليها. كما يشكو تيار آخر من قادة هذا الجناح، من أنّ المال الذي مُنع عليهم، ظهرَ بكرم على الدعايات الانتخابية.
أما القاعدة الشعبية لحماس، فجزء غير قليل منها، محتار ومشوّش. فهم تربوا على نهج المقاومة، وعلى أن فلسطين أرض وقف إسلامية، لا يحق لفلسطيني، التصرف بها، عن طريق حل سياسي. والآن، يرى هذا الجزء، عكس ذلك. يرى قيادة الحركة، معنية بقطف الثمرة، مثل غيرها. ويراها انقلبت على شعاراتها وأطروحاتها، تحت مسميات وحجج مختلفة، تدخل في باب المناورة الغامضة لا أكثر. فهي، كما يقول بعضهم، لا تختلف عن فتح، حزب السلطة الحاكم، في شيء. فكيف السبيل إلى حل كل هذه التناقضات؟ هذا هو السؤال الملح على القيادة السياسية الآن. وطبعاً، تحاول هذه القيادة، تجاهله تماماً، في ظل استعار الحملة الانتخابية، مرحلياً على الأقل. لكنها لن تنجو منه، في المدى القريب والبعيد. ولن يجديها نفعاً، أن تصرّح، على لسان أحد قادتها ومرشحيها، بأن الشيخ الذي أصدر الفتوى، ليس من الحركة، وليس محسوباً عليها. فالكل يعلم، بأن هذا الشيخ، هو أحد مؤسسي الحركة، وأهم داعية لها في جنوب القطاع.
إن حماس، تدفع الآن، ثمن لغتها وخطابها غير الواقعيين. فهي علّمت وربّت أولادها، على اللغة المثالية التضحوية، وفصلتهم عن مجريات الواقع السياسي من حولهم. بل رسخت لديهم الوهمَ، بأنها مالكة الحقيقة الإلهية المطلقة، وأوحت لهم، بأن كل قول واجتهاد غير قولها واجتهادها، ما هو إلا باطل وقبض ريح. وقد ساعدها نهجها [ المقاوم ] وابتعادها عن فساد السلطة، وتضحيات أبنائها وكوادرها، في تأكيد صدق أطروحاتها عملياً. وبالأخص، أمام جماهيرها الشعبية ذات الوعي المنخفض، كي لا نقول كلمة أخرى. فكيف لهذه الجماهير، التي تُعدّ بمئات الآلاف، أن تقتنع الآن، بانقلاب قادتها على كل ما قالوه سابقاً؟ هذا هو مأزق حماس الآن. ونحن نتمنى لها، الخروج من هذا المأزق، وإعادة تأهيل جماهيرها، على لغة الواقع الميداني والحقائق، لا لغة الشعارات المهلكة. بما يخدم المصالح العليا لمجموع الشعب الفلسطيني. وبما يُنقصُ من معاناته الرهيبة، ولا يزيد عليها.
هذه هي حماس من الداخل، أما من الخارج، فأي متابع محايد لها، يعرف أن إيران وسوريا وحزب الله، هم من يقفون وراء تغير مواقفها. وهم من يدفعونها إلى اتخاذ هذا الموقف أو ذاك. فهم جهة التمويل، ومن يمتلك المال، يمتلك القرار أيضاً. لكننا، نطالب حماس، في هذه النقطة بالذات، أن تضع مصلحة شعبها، فوق حسابات سوريا وإيران. وأن لا تقع، في ما وقعت فيه، معظم فصائل منظمة التحرير، من قبل. لأننا في لحظة حرجة من تاريخنا الوطني، لحظة لا تتسع للمناكفات والمراوغات والمساومات. فالسفينة بجميع راكبيها، تتأرجح في مهب العواصف. ولن يغفر لها لا شعبها ولا التاريخ، أن تضع حسابات سوريا وإيران، فوق حسابات شعبها المظلوم المعدوم. لتدخلْ حماس الانتخابات، فهذا خير لها ولنا معاً. وهذا انتصار للواقعية السياسية، بل هذا انتصار للجميع. وليجربْ شعبنا، سلوكها على الأرض، بعد أن جرّب مقولاتها وشعاراتها. فالجميع، أبطال قبل التجربة، والبطل الحقيقي بالطبع، هو من يثبت بطولته بعد التجربة!
تدخل حماس، اللعبة الديموقراطية الآن. ومن يدخل هذه اللعبة، عليه الالتزام بكل شروطها. ومن شروطها، أن ترضى الأقلية بحكم الأغلبية. فإذا شكلت فتح مع قوى اليسار، حكومتنا القادمة، وهو الاحتمال الأرجح، فعلى حماس أن لا تقف حجر عثرة، في طريق احتمال حلول قادمة، كما فعلت في السابق. وعليها، منذ الآن، أن تأخذ طريق المصارحة والوضوح واللغة العقلانية، أمام جماهيرها وأمام جماهير الشعب كافة. مبتعدة ما أمكن عن لغة المناورات والمناكفات، وهدهدة عواطف الجمهور. لأن هذا الجمهور، تعبَ وملّ، ويريد حلاً معقولاً، ضمن قرار 242، ولا يريد دولة مؤجلة إلى الأبد، أو دولة غامضة في الجنة!