وأخيرا فعلتها سلطات مدينة دبي الإعلامية ونفذت قرارها المؤجل منذ شهور بإغلاق قناة وفضائية (الفيحاء) العراقية التي تعبر عن صوت أهل الجنوب العراقي بغض النظر عن أصولهم و إنتماءاتهم الدينية والمذهبية، وهو قرار لم يكن مفاجئا بطبيعة الحال لأن عملية إغلاق القناة كانت مقررة سلفا منذ شهور وعلى خلفية أسباب وعوامل عديدة ومتداخلة غطاؤها الظاهري بعض المخالفات الإدارية البسيطة، بينما دوافعها الحقيقية سياسية محضة لها علاقة بما يدور من مواقف ومتغيرات هنا وهناك، والفيحاء كما نعلم منذ إنطلاقتها بعد سقوط أصنام الإستبداد والهزيمة والشمولية في بغداد والمتغيرات الإعلامية الإنفتاحية الكبرى كانت تعمل وفق رؤى وبرنامج إعلامي عراقي موجه للداخل العراقي ولأهل الجنوب على وجه التحديد يخاطب العقل ويسمو فوق الصراعات والخلافات المذهبية والطائفية ويحاول أن ينير طريق المستقبل من خلال لغة التوافق والحوار والبعد كل البعد عن لغو الطائفيين ومؤامرات التيارات السلفية أو الطائفية المتطرفة، ويعلو على لغة الدم والمدفع والصاروخ، وقد مرت على شاشة الفيحاء وجوه إعلامية طيبة وكريمة لعل من أبرزها الإعلامي المعروف الدكتور هشام الديوان الذي ولشهور طويلة طبع القناة بطابعه المرن والمتسامح والبسيط إلى أن تم إبعاد الديوان بصورة سريعة من خلال الإجراءات الأمنية للدولة المضيفة!! وهو ملف لم تكشف أسراره ومغاليقه للرأي العام حتى اللحظة، و (الفيحاء) شأنها شأن أي قناة إعلامية عراقية أخرى باتت تتحرك وفق ضوابط إعلامية صعبة وحساسة ومتوازنة تراعي الوحدة الوطنية العراقية بالدرجة الأساس، وتحاول جاهدة إرضاء مختلف التوجهات وهي مسألة مستحيلة وأمر دونه خرط القتاد في العراق الراهن المتوتر طائفيا والمشتعل بنيران الفتنة، رغم أن الخطاب الإعلامي العام للفيحاء هو خطاب متوازن لا يعادي أحدا سوى الجماعات الإرهابية والتكفيرية و البعثية المجرمة، وهو خطاب يحرم ويستهول ويستنكر سفك دماء العراقيين أيا كانت الأسباب والدوافع، ووسط ركام ومخلفات العديد من القنوات التلفزية العربية بما في بعضها من عري وخلاعة وخطابات مسمومة تمجد الإرهاب وأهله وتحث عليه أو تسايره وتنافقه وتتعامل مع رموزه يأتي غياب أو تغييب الفيحاء في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العراق والشرق الأوسط بمثابة عملية إغتيال حقيقية لصوت بارز من أصوات الإعتدال والتسامح والروح العراقية القديمة المتسامحة التي لا ترى فرقا بين سني أو شيعي أو مسيحي أو يهودي سوى بمعيار المواطنة والولاء للوطن والناس و لكل ما هو مشترك من عوامل الخير والبناء، وفي ذلك كما نعلم نكسة إعلامية عربية تعزز توجهات تلك القنوات ذات الأسماء الرنانة والإمكانيات المادية الواسعة التي تدس السم بالعسل وتطرح خطابات التهييج والإثاره ونبش الفتن الطائفية والسياسية وإثارة الأحقاد وتأجيج الصراعات الخامدة والفيحاء كما نعلم رغم كل هفواتها ونواقصها وقد إنتقدتها بحدة ذات مرة بعيدة كل البعد عن تلكم الأمور وملتزمة ذاتيا بميثاق شرف إعلامي ومهني صارم لا يتعدى على الآخرين بل يدافع عن تأوهات المحرومين والمتضررين من الإرهاب الأسود الذي تغذيه مصادر معروفة لم تجاملها الفيحاء يوما رغم المخاطر المعروفة !.

قناة الفيحاء رغم التهمة الشائعة عنها بكونها (قناة شيعية التوجه) لم تتردد يوما عن توجيه النقد اللاذع لإيران ولتدخلاتها المفجعة في الشأن العراقي الداخلي ومحاولتها ركوب الموجة التخريبية في العراق،وهي رغم ما يقال عن شيعيتها كانت المتنفس لكل الأصوات العراقية من سنية أو صابئية أو حتى مسيحية وتعامل الجميع بإحترام ولم تصدر عنها أو عن موظفيها أي شبهات لتعامل طائفي أو لتعصب أخرق بل كانت مهنية تعمل بروح عراقية وطنية صميمة تشهد إنقراضا وإضمحلالا اليوم ! إنها صوت من ماضي التسامح العراقي المعهود، صوت لم يتلطخ بأدران التعصب والجهل والخرافة !، وتهمة التحيز الطائفي هي من التهم الساقطة والفارغة لأنها لو كانت كذلك لتمتعت بمميزات مالية وبقدرة إقتصادية!! ولكنها والجميع يعلم بالحقيقة قناة فقيرة خالية من الإعلانات لا يملك أصحابها أي أرصدة مليونية وتعمل بالتعاون مع جماهير الإعلاميين العراقيين والعرب بأسلوب التطوع والمشاركة وليس بأسلوب الشيكات المفتوحة؟ فهي ليست مدعومة من نظام ما؟ ولا تستلم أموال الخمس والزكاة من عمامة معينة؟ لكون مهنيتها وإستقلاليتها من الأمور غير اللائقة لأهل الدفع والتمويل!! وهي مسألة معروفة في الساحة الإعلامية؟.

كان من المؤمل أن تبث الفيحاء من مدينة (البصرة الفيحاء) ذاتها، وهي الحالة الطبيعية التي تتناسب وتسمية وتوجهات القناة، ولكن الحالة الأمنية المعروفة والحفاظ على الإستقلالية والدفاع عن الرأي الحر أمور لا يستقيم وضعها مع ما تشهده البصرة من تمركز لقوى التخلف و الردة والضلالة ولعصابات الموت الإرهابية، فكانت دولة الإمارات العربية المتحدة الكريمة و(دبي) على وجه الدقة هي المقر المؤقت إلى أن يقرر الله أمرا كان مفعولا وتتحسن وضعية العراق وترسو سفينة الديمقراطية والأمن بأمان ولكن يبدو أن الإحباط الشامل في العراق قد ترك مؤثراته وتوابعه على مختلف المجالات، وها هي الفيحاء تطرد من مقرها المؤقت! ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن (الفيحاء) ستعود حتما ومن مكان آخر لا نعلمه حاليا؟ فأرض الله واسعة ولن يعدم وجود البديل طالما توفرت الإرادة وهي العنصر الحديدي لأي عمل مهني مخلص يهدف لإشاعة روح التسامح وتغليب العقل والمنطق وبناء الخطاب الإعلامي العربي المتوازن المسالم الهادف لخدمة الحقيقة... فوا أسفاه على مطاردة أهل الفكر والرأي الحر والمستنير... تحية لكل الأصوات المضطهدة والمقموعة... وسينبلج فجر الحرية لا محالة مهما هيمنت راية الإرهاب، فبالحق والخير والتسامح وحده تعلو الأمم.

[email protected]