في مقالته القيمة والواقعية الجديدة يشير الدكتور عبد الخالق حسين إلى الكتاب الفرنسي quot;عن quot;الاستخدام السليم [ أو الرشيد ] للحرب الأهلية في فرنسا.quot; [Du Bon Usage De la guerre civil En France ِ.. ] والمؤلف هو: Jacques Marseille.

ودفعا لكل التباس عما يقصده الكاتب فإنه يعني إدارة أية حرب قائمة فعلا إدارة تؤدي لتقليل الخسائر وتحقيق الإصلاحات الضرورية التي يستدعيها الوضع والمصلحة العامة. وكان المؤلف قد نشر قبل هذا كتابا عنوانه quot;الحرب الفرنسية ndash; الفرنسيةquot; أثار استنكار بعض الصحف اليسارية التي اتهمت المؤلف بالدعوة لنحر تاريخ فرنسا نحرا ذاتيا. ونضيف أن كتابه الجديد هذا لعام 2006 قد سبقه أيضا كتاب لمؤلف آخر بعنوان quot;فرنسا التي تتداعىquot; لنيقولا بافاريه؛ وكنا قد استعرضناه قبل حوالي العامين تحت عنوان quot;هل فرنسا تتداعى؟quot;

المؤلف، وهو مؤرخ مختص ومحلل، يغوص في التاريخ الفرنسي منذ القرن الرابع عشر ويراه سلسلة من الحروب الأهلية، مكشوفة أو مقنعة وسلمية أو بعنف السلاح. فالحروب الأهلية في نظره لا تعني دوما حربا بالسلاح ولا ثورة مسلحة وإن كانتا نوعين من الحروب الأهلية. ويخالف المؤلف بعض الآراء، ومنها ما قدمه أمير طاهري في الشرق الأوسط قبل شهور عن الحرب الأهلية وتوصيفها وشروطها، وكان طاهري يناقش الرأي القائل بوجود حرب أهلية في العراق وهو ينفي ذلك. ومن هذه الآراء عدم اعتبار الثورات أو الحركات القومية للأقليات القومية أو الحرب الدينية والطائفية حروبا أهلية. فمثلا يعتبر الباحث الثورات الفرنسية في القرن التاسع عشر حروبا أهلية ملتقيا في ذلك مع تحليل ماركس وأنجلز. كما أنه يرى حروبا أهلية الإصلاحات الكبيرة التي أدخلها بعض الملوك والحاكمين لتقليم امتيازات شرائح اجتماعية تحتكر كل شئ
يقول الكاتب، ردا على الاتهامات الموجهة له بمحاولة تقسيم الفرنسيين ووضع بعضهم في وجه بعض، إن دراسة تجارب الصراعات الماضية دراسة موضوعية هي على العكس تؤدي لتقوية اللحمة الوطنية لما تقدمه من دروس وعبر الحاضر والمستقبل وأنه في نهاية كل صراع يجب التقدم إلى أمام لتكون الحرب الأهلية التي تحسن إدارتها قاطرة للتطور.
يعدد الكاتب ثماني حروب أهلية في التاريخ الفرنسي، بدأ من الملك المتنور شارل الخامس الذي فرض إصلاحات هامة منها عدم إقحام الدين في الحريات والخصوصيات الشخصية وهو بذلك يعتبر أول حاكم quot;عصريquot; فرنسي.

بعد ذلك يقوم هنري الرابع في القرن السادس عشر بخطوات لتوحيد فرنسا الممزقة بين فرنسا البروتستانية وفرنسا الكاثوليكية وبين فرنسا الشمال وفرنسا الجنوب. والثالثة في القرن الرابع عشر عندما فرضت البرجوازية المسلحة والنواب تعيين طفل ملكا للحد من غطرسة الأمراء وأتباعهم. ثم مرحلة تولي نابليون الأول السلطة بعد عشر سنوات من الحروب والصراعات الأهلية منذ الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت فترة إضعاف السلطة المركزية والتناحر الفرنسي ـ الفرنسي المتصاعد والدمار الاقتصادي.
إن الكاتب يخصص مكانة خاصة لدور نابليون في إنشاء سلطة مركزية قوية أنهت الفوضى العامة والصراعات الدامية، ومحافظة على العدالة للجميع وبقية مبادئ الثورة الكبرى. كان نابليون يقول إن الشعب دعمه والتف حوله لأنه كان متعطشا للأمن والاستقرار، وكان يقول إن quot;الفرنسيين لا يريدون اليوم الحرية قدر تعلقهم بالمساواة وبسلطة مركزية قوية، وإن بين السلطة القوية والمساواة علاقات خفية، وأن السلطة القوية هي ضمان منجزات الثورة التي كان نابليون يعتبر نفسه حاميها. كان قلبه مع الشعب ويهين الملوك والأمراء. كان يعتبر نفسه جندي الحرية ومواطنا مخلصا للثورة في وجه اليسار المتطرف والملكيين.

أجل، بدون ضمان الأمن والاستقرار وإنهاء الصراعات الأهلية لا يمكن الحفاظ على أية حرية مكتسبة بل تتحول، كما في حالة العراق اليوم، إلى حرية القتل والاغتيال والدمار والنهب والسلب والفوضى العامة وتفكك الدولة باسم فيدراليات طائفية والتدخل الخارجي الواسع في الشؤون العراقية. وقد أدى التخبط الأمريكي في العراق وسوء أداء القيادات محاولة إلى حرق المراحل بوهم قيام ديمقراطية برلمانية حقيقية خلال عامين بعد سقوط نظام خلف وراءه دمارا وخرابا شاملين وشبكات من المجرمين وتدهورا في الأخلاق العامة وسيادة لثقافة وعقلية العنف. وكان الأستاذ عبد الخالق محقا في تشخيصه للداء الذي يعاني منه العراق وشعبه اليوم.

وكنا قد دعونا مرارا منذ سقوط صدام إلى عدم الاستعجال بالانتخابات كما كانت تطالب الأحزاب الدينية وبعثة الأمم المتحدة تدعو لذلك الدول العربية للإحراج. وبرغم أهمية الانتخابات الأولى من حيث كونها وجهت صفعة للإرهابيين، الذين هددوا بقتل المرشحين والمصوتين، فإن النتائج لم تؤد إلى تقدم ديمقراطي حيث تم سلق دستور مشوه ومتناقض وإسلامي الطابع وإلى هيمنة الأحزاب الدينية ومليشياتها، في وقت استمرت فيه الموجة الإرهابية وتصاعدت وبلغت حدودا خطيرة ومذهلة من الجنون والقسوة والدمار.

يتبع