منذ أن طفح المشروع النووي الإيراني إلى واجهة المسرح السياسي، وصار متغيراً جذرياً في المشهد الإقليمي والدولي، بدت بوادر أزمة استراتيجية سرعان ما وشت بالهدوء النسبي الذي مرَّ على المنطقة في سنوات فائتة لجهة القلق المعمَّق والمشوب بمخاوف من استفحال ظاهرة التجربة النووية الإيرانية بوصفها قوة جديدة ستستدعي ظهور قوى أخرى على الصعيد الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والثقافي والمجتمعي لتؤثر في دول الجوار الإيراني عامة والخليجي منها على نحو خاص، وهو الأمر الذي يستدعي أبداً إمكانية البحث الدائم عن مآزق هذه الأزمة وتشخيص مخارجها الحقيقية والفاعلة.
حتى اللحظة، تعرَّضت المنطقة إلى ثلاث متغيرات تبدو جذرية في أُفقها الاستراتيجي، هي:
الأول: العراق الجديد: والمقصود به إعلان الحرب الأمريكية على نظام صدام حسين، وتغييره إلى نظام بديل، ومن ثم جملة المآزق التي يتعرَّض لها العراق الجديد على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي والمجتمعي والأيديولوجي.
ومع أن نظام الدولة البعثية كان يرتبطُ بعلاقات متوترة مع دول مجلس التعاون الخليجي إثر غزو نظام صدام لدولة الكويت، إلاّ أن بقاء ذاك النظام لفترة أطول كان سيحافظ على توازن سياسي وأيديولوجي تقليدي بالمنطقة، ومنها منطقة الخليج العربي، ما تُعدُّ عملية إزالته نسفاً لذاك الاستقرار، وإيقاداً لنيران ما كانت المنطقة بحاجة إليها. لكن النيران تم إيقادها، وصار ما صار بالعراق من نهب وقتل ودمار لأبرز مقومات الدولة البعثية.
تصفيات وجهات
إن غياب نظام دولة كان يتمتَّع، إلى حدٍّ ما، بالقوة، ووجود نظام بديل ما زال حتى اللحظة هشَّاً، أدى إلى تحوُّل العراق إلى ساحة تصفيات مزدوجة؛ تصفيات التنظيمات الإرهابية مع الولايات المتحدة الأمريكية على أساس سياسي، ومع الطائفة الشيعية على أساس مذهبي، وتصفيات إيرانية مع الولايات المتحدة، ومع يقايا نظام صدام، وتصفيات سورية مع مشروع الولايات المتحدة الأمريكية. واللافت هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل، بوجودها في العراق، ومن خلال مشروعها الجديد فيه، محوراً مركزياً في تصاعد الأزمة مع ثلاث جهات، هي: جهة التنظيمات الإرهابية التي تسعى للثأر من سياسات الولايات المتحدة بالمنطقة والعالم، وجهة إيران، ومن ثم جهة سورية. ولعل الأهم فيها، قدر تعلُّق الأمر بدول مجلس التعاون الخليجي، هو الجهة الإيرانية، التي وجدت في المشروع الأمريكي بالعراق نسخة لا تقل شراسة عن نظام صدام الذي شن حرباً شعواء عليها، بل هناك ما هو أكثر شراسة من ذاك النظام؛ فقوات الجيش الأمريكي هي اليوم قريبة بكل عدَّتها المتقدمة من الناحية التقنية إلى حدود إيران، وفي مرحلة قادمة ستكون القواعد العسكرية الأمريكية ذات وجود عياني، كما أن الدوائر الاستخبارية سيكون عملها سهلاً في تحصيل المعلومات الميدانية عن إيران. وكل ذلك وغيره أدّى إلى تورُّم المخاوف الإيرانية من عراق أمريكي جديد فما كان عليها إلاّ أن تذهب إلى القوة النووية لتكون عدَّتها في تحقيق توازن ما يحفظ لها كيانها.
الثاني: الباعث النووي الإيراني: لقد أدى المتغير العراقي إلى متغير آخر هو المتغير النووي الإيراني. ومع أن المشروع النووي لدى إيران هو مشروع قديم، إلاّ أن ما جرى بالعراق كان باعثاً لأن تبلور إيران قراءتها على نحو مغاير هذه المرّة لما عندها من قوة ردع إستراتيجية بحيث أصبح المشروع النووي الإيراني وقد وصل إلى نهاية مقاصده التطبيقية، ونضجه اللوجستي، وفاعليته الميدانية في وقت أحدث الخطاب السياسي الإيراني متغيرا بداً أكثر تساوقاً مع اقتراب إيران من صناعة القنبلة النووية عندما رحَّلت الرئيس المنفتح محمد خاتمي عن الحكم واستبدلته بالرئيس المتشدِّد محمود أحمدي نجاد، الذي أشعل برؤاه الجذرية جملة من المخاوف لدى واشنطن قبل تل أبيب، ولدى الدول الأوروبية قبل دول مجلس التعاون الخليجي، ما يعني أن خطاباً سياسياً إيرانياً مثيراً للجدل صار مدار حديث المجتمع الدولي، وأن قوة نووية أمست تهدِّد الجار قبل الأغيار، فكيف الحال إذا كان الجار الخليجي لإيران النووية يتمتَّع بمكانة إستراتيجية من الناحية النفطية والجغرافية والدينية والمذهبية؟
الثالث: العجز الأمريكي: إزاء هذا كله، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة على نحو مزدوج لتقديم حلول جزئية إنْ لم تكن شاملة لما نتج عن المتغيرين في العراق إيران؛ فبصدد العراق الجديد يبدو العجز الأمريكي واضحاً كالشمس خلال السنوات الثلاث الماضية، حيثُ تكبَّدت واشنطن بخسائر بشرية ومادية كبيرة رغم لغة المكابرة المعهودة عنها، وكبَّدت سياستها المزيد من الخسائر البشرية والمادية لدى الشعب العراقي جراء استفحال مشهد العنف الدموي اليومي عندما اعتبرت العراق ساحة للقضاء على الإرهاب المحلي/ العراقي، والعربي، والإسلامي/ المتعولم.
العجز والطبق
حتى بداية شهر آذار / مارس هذا العام لم تبد واشنطن حرصاً شديداً وحاسماً لحل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد نتيجة مطامع بعض الأطراف المشاركة في المشهد السياسي العراقي الجديد بالحكم دون غيرهم في محاولة لاستعادة انفرادية الأمس القريب بالسلطة. كما أن واشنطن لا تمتلك حتى الآن أجوبة عن مستقبل العراق في ظل المتغيرات الدائرة رحاها بالمنطقة، ولن تُقبِل حتى الآن على بعث الاطمئنان إلى دول الجوار العراقي بشأن شكل الحكم بالعراق الجديد سوى أنه عراق ديمقراطي تعددي بينما هي تترنَّح بين السُّنة والشِّيعة والأكراد وهم في غمرة حرب جهويَّة غير معلنة من أجل الظفر بكرسي السلطة لا أكثر.
أما إيران، فيبدو العجز الأمريكي أكثر جلاءً مقارنة بعجزها في العراق، فواشنطن أعلنت مراراً أنها لا تريد خوض حرب على الجمهورية الإسلامية لتغيير النظام فيها، وهي في الوقت نفسه غير قادرة على توتير الأزمة مع طهران لأن الطبق العراقي لم يكتمل تزويقه بعد، كما أن أمن الخليج العربي لا يمكن التفريط به في ظل التحالف الاستراتيجي التقليدي من جهة، وارتفاع أسعار النفط من جهة أخرى. وواشنطن، أيضاً، غير قادرة على تحريك قوى داخلية مناوئة للنظام الحالي في طهران، ولا حتى قوى إيرانية خارجية تعيش بالمنافي؛ لا الملكيين، ولا الليبراليين، ولا الشيوعيين، ولا حتى العملاء الافتراضيين التي راهنت واشنطن على تحريكهم في حال شروعها بالتغيير الجذري في إيران. لقد مرَّ أكثر من ربع قرن على الثورة الإسلامية في إيران، ولا تبدو حرب صدّام أنها أضعفت إيران؛ فهي اليوم أكثر قوة من ذي قبل من دون المفاعل النووي، وهي أكثر قوة به اليوم في ظل الانهيار بالعراق، وجملة الانهيارات المرتقبة في سوريا ولبنان، وانشغال واشنطن بالحرب على الإرهاب المتعولم.
إزاء كل هذا، ما الذي ينتظره مجلس التعاون الخليجي في ظل هذه المتغيرات الثلاثة: تصاعد الوضع المتردي بالعراق، واستفحال الباعث النووي الإيراني، وترهُّل العجز الأمريكي؟
لقد كُتب الكثير عن أثر المشروع النووي الإيراني في منطقة الخليج العربي، وكتب الكثير من الباحثين وكتّاب المقالات والأعمدة الصحافية الخليجيين عن هذا الأثر، وبدت المخاوف قاسماً مشتركاً بين كل هؤلاء، ومن بين الكتابات ما ذهبت بعيداً في مخاوفها عندما صوَّرت للرأي العام العربي والإسلامي والخليجي أن القنبلة النووية الإيرانية لا تسعى إلاّ إلى استهدف منطقة الخليج العربي، خصوصاً بعد صعود الرئيس الإيراني الجديد. وقد تكون عملية التعبير عن المخاوف الخليجية أمراً معتاداً، وهو من الممكن أن يكون مقدِّمة لتفكير أكثر تركيزاً سعياً للبحث عن مخارج لأزمة الأثر النووي الإيراني في منطقة الخليج العربي. وبطبيعة الحال أن الخطوة الأولى في هذا الطريق إنما تكمن في تبديد المخاوف وعدم الشعور بها بوصفها تحدياً إيرانياً جهوياً مقصوداً ضد الدول الخليجية، فالباعث السلمي يمثل أحد جوانب المشروع النووي الإيراني، وعلى الخليجيين قراءة هذا الباعث بوصفه مدخلاً يمكن أن يؤدي إلى اتفاقات خليجية ـ إيرانية للحصول على ضمانات مشتركة تضمن بها دول الخليج العربي نأيها عن دائرة التحدي النووي فيما لو تمَّ استخدامه من قبل إيران خارج الإطار السلمي ضد إسرائيل أو غيرها رغم أن هذا الخيار ما زال مستبعداً، ما يعني أن زمام المبادرة في تقويض المخاوف الخليجية من النووي الإيراني إنما يبقى بيد الخليجيين أنفسهم وليس بيد الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو حتى المحيط العربي والإسلامي غير الخليجي. وفي هذا السياق يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تعقد مؤتمراً مشتركاً مع إيران، ويمكن أيضا أن تبرم اتفاقيات إستراتيجية بينية لضمان إبعاد المنطقة الخليجية عن الشبح النووي الإيراني، إلى غير ذلك من الضمانات المطلوبة.
كاتب وأستاذ جامعي عراقي
[email protected]
التعليقات