تصاعد الدور الميداني للجيش العراقي في مكافحة الإرهاب وتنقلاته صعودا وهبوطا في مدن العراق شمالا وجنوبا من كركوك والموصل وحتى الديوانية والبصرة هي من الظواهر التي تلازمت والنشأة التاريخية للعراق المعاصر؟ فعلينا أن لا ننسى أن التكوين العراقي في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم قد حفل بمتلازمة غريبة تتمثل في تأسيس الجيش العراقي في السادس من يناير/ كانون الثاني عام 1921 قد سبق تكوين وإنشاء الدولة العراقية ذاتها ممثلة في (المملكة العراقية) في التاسع والعشرين من آب / اغسطس عام 1921 وتنصيب (الأمير) فيصل بن الحسين الهاشمي ملكا على العراق وحيث تحققت الوحدة العراقية لأول مرة منذ سقوط بغداد والخلافة العباسية أمام جحافل المغول عام 1258 ميلادية؟ أي أن التاريخ كأنما أراد أن يقول بأن الجيش قد صنعت له دولة أسمها (العراق)!! وهو ما تحقق فعلا وقولا من خلال الأحداث الساخنة التي مر بها العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين وفشل النظام الملكي العراقي السابق في تطويع المؤسسة العسكرية العراقية وجعلها حامية للدستور والنظام بل تحول الجيش لمؤسسة فاعلة في الحياة السياسية العراقية خصوصا بعد تصاعد أدواره الأمنية وتحركاته لفرض الأمن والنظام ضد ثورات الثائرين وتبرمات المتبرمين من الآثوريين في الشمال الذين قمعهم الجيش بشكل شرس وصولا لقبائل وعشائر الفرات الأوسط الذين تحولوا لمادة دسمة يتصارع حولها وبها ساسة العراق الطموحين وقتذاك وفي ظل الغياب المفاجيء لشخصية الملك فيصل الأول الكارزمية وتولي خلفه الملك غازي الأول عام 1933 وهو الضعيف والمتأثر بأجواء الإستقطاب الدولي وقتذاك وصعود القوى الفاشية و النازية في أوروبا وموجة الأنظمة العسكرية المركزية القوية في الشرق كما في إيران البهلوية وتركيا الأتاتوركية! وحيث نمت في الجيش العراقي شخصيات قيادية تمكنت من إقحام الجيش في صلب الصراعات السياسية الداخلية ليتم الإنقلاب العسكري الأول في العالم العربي ممثلا بإنقلاب الفريق بكر صدقي في 29 أكتوبر 1936 ضد حكومة السيد ياسين الهاشمي التي أسقطت لتحل محلها حكومة ذات نكهة شعبية يسارية برئاسة حكمت سليمان تميزت بهويتها العراقية المحضة والتي لم تستمر سوى لشهور قليلة بعد إغتيال الفريق بكر صدقي العسكري في مطار مدينة الموصل على يد الجماعات القومية في الجيش العراقي صيف 1937 لينتهي ذلك الإنقلاب البكر وتتعزز مسيرة وهيمنة الضباط والعسكريين في أروقة السلطة ومؤسساتها مع الضعف البنيوي للمؤسسة الملكية وتصاعد حدة الصراع الدولي وتعزيز المعسكرات والذي إنتهى فعليا بقتل الملك غازي نفسه في حادثة السيارة الشهيرة في قصر الزهور في نيسان/ إبريل 1939 وترتيب الأوراق الداخلية لمرحلة إندلاع الحرب العالمية لثانية ودخول ضباط الجيش العراقي في لعبة السياسة والحرب ومعاهدات الدفاع ونمو تيار(المربع الذهبي) الشهير من الضباط العراقيين الذين إستطاعوا تحريك الأوضاع السياسية بإتجاه الصدام الدموي مع بريطانيا في عز أزمتها الوجودية في أوروبا وهي تقاوم وبمفردها الجحافل النازية الألمانية التي بسطت هيمنتها على القارة العجوز بإستثناء الجزر البريطانية ليقحم الجيش العراقي في معركة غير متكافئة في مايو/ أيار 1941 تكللت بعودة ثانية وسريعة للإحتلال البريطاني للعراق وإنتهت بتقليص حجم وتسليح الجيش العراقي الذي ظلت أدواره الأمنية الداخلية هي الأدوار المركزية في نشاطاته من خلال ضبط الشارع السياسي العراقي المتوتر كما حصل عامي 1952 و 1956 إلى أن ظهرت قيادات عسكرية متأثرة بأسلوب تنظيم الضباط الأحرار المصري حسمت موقف وبقاء النظام الملكي العراقي في الإنقلاب المشهور بإنقلاب 14 تموز/ يوليو 1958 الذي أسقط النظام الملكي في العراق والذي كان نظاما يترنح وفاقدا لعنصر التجديد ليتحكم الجيش العراقي هذه المرة بمصير العراق ويسقط التجربة الديمقراطية الوليدة والناقصة ويؤسس لحالة ثورية جديدة كانت هي سمة العصر في تلك الحقبة؟ وكان الإنقلاب العسكري (الصدفة) والذي نجح بطريقة مفاجئة مقدمة موضوعية في إدخال العراق في أتون صراعات سياسية وشخصية و آيديولوجية حادة بين أقطاب الإنقلاب ذاتهم وهي المسألة المعروفة في أي إنقلاب عسكري في العالم ولعل تجربة إنقلاب الضباط الأحرار في مصر عام 1952 تقدم الدليل الحي الأنصع على ما نقول، فقائد الإنقلاب اللواء محمد نجيب تحول لأسير تحت الإقامة الجبرية الطويلة والقاسية لم تنته فعليا إلا بموته عام 1982!! بعد عقود طويلة من المعاناة والنسيان؟ أما ضباط مجلس قيادة الثورة فقد تشتت بهم السبل بين من هو تحت الإقامة الجبرية وبين متشرد لم يعرف له أي دور سياسي كما هو الحال العقيد يوسف منصور! وبين سفير متجول وبين من شارك في السلطة ثم إحترق في دروبها كما كان حال الرائد صلاح سالم وغيره من ضباط تلكم الأيام وبين من إنتهى إلى السجن ومن ثم الإنتحار كما هو حال نائب القائد الأعلى المشير عبد الحكيم عامر وبطانته الشهيره!ولكن الوضع في العراق كان أشد قسوة وهمجية فمنذ الأسابيع الأولى للإنقلاب بدأ الصدام العلني بين قيادتيه ممثلة في الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف وهو صراع إنجرت إليه القوى السياسية العراقية المختلفة والتي رغم آيديولوجيتها الفكرية العلمانية كانت تدار وفق مصالح وأهواء طائفية وعشائرية محضة تعبر خير تعبير عن تخلف المجتمع العراقي فنشب الصراع الدموي بين اليسار العراقي والتيار القومي العراقي وهو صراع توج بمحاولات إنقلابية وبجثث طافحة وبحملات إغتيال وإرهاب مروعة روعت الشارع العراقي وتذابح الضباط فيما بينهم ونصبت المشانق الجماعية وساحات الرمي والإعدام وتوتر العراق بل إنفجر في حروبه الداخلية وخصوصا حرب الشمال في كردستان حتى وصل الصراع ليوم الثامن من شباط / الرابع عشر من رمضان عام 1963 الذي شهد إنقلابا عسكريا دمويا مريعا إنتهى معه عمر نظام عبد الكريم قاسم ودشن ذلك اليوم مذبحة دموية شنيعة ضد اليسار العراقي قادها البعثيون والقوميون وبحراب الجيش العراقي المتورط حتى أذنيه في حمامات الدم العراقية المخجلة، وتستمر قافلة الأيام وتطوراتها ليشهد العراق أحداثا جسام إنتهت بتطويع المؤسسة العسكرية لصالح أبناء العشيرة الذهبية في حزب البعث إعتبارا من تموز/ يوليو 1968 وحتى تاريخ سقوط الصنم في التاسع من نيسان 2003 تحول الجيش العراقي خلالها لمؤسسة قمعية في خدمة السلطة الفاشية يحارب في معاركها الفاشلة كما حدث في الكويت ويساهم في تقتيل و ذبح شعبه كما حصل في كردستان والجنوب العراقي عام 1991 حتى ترهل وتحلل مع سقوط النظام في (حواسم 2003)!، واليوم يبدو أنه أمام تشتت الحال العراقية وحالة الحرب الأهلية الطائفية القائمة وتخلخل وضعف السلطة المركزية وتراجع الولاءات الوطنية لأهل السياسة في العراق، ونمو الجماعات الطفيلية المذهبية والدينية من تكفيرية سلفية أو طائفية رجعية متخلفة وبدائية هشمت كل بقايا الصورة الحضارية للمجتمع العراقي المشتت، مع حالة الضعف البنيوية في الأحزاب السياسية العراقية لم يعد هنالك من بديل فعلي للحفاظ على العراق الذي نعرفه سوى المؤسسة العسكرية العراقية الجديدة الناشئة التي تذكرنا حروبها المتنقلة حاليا ضد زمر وأوكار البعث والتكفيريين والطائفيين بتحركات الجيش العراقي السابق خلال المرحلة التكوينية الأولى للدولة العراقية؟.
للأسف الديمقراطية العراقية الوليدة لم تكن على مستوى المسؤولية، فالديمقراطية تحتاج لأجيال من الديمقراطيين لكي يضمن نجاحها؟ أما وأن رئيس البرلمان العراقي ذاته (محمود المشهداني) يهدد علنا بإعتبار (حذائه) أفضل من الديمقراطية التي لا تفرض منهجه الديني المتطرف!! فإن في الأمر كارثة محققة؟ فهل ينبثق من رحم الجيش العراقي الجديد أتاتورك عراقي بمواصفات عصرية يكنس كل النفايات الطائفية والزعامات الفارغة المتربعة حاليا ويحرص على إدامة وتعزيز الوحدة الوطنية العراقية بعيدا عن رياح العنصرية والعشائرية والطائفية النتنة ليشهد العراق إنطلاقة البناء الحقيقية؟ أم أننا سنظل نحلم ونحلم حتى الثمالة بظهور المخلص والمنقذ الذي قد لا يأتي أبدا رغم كل الشعارات؟... لا نملك إلا الإنتظار.. أو ترجمة شعار : (اللي شبكنا يخلصنا)!!!... والحر تكفيه الإشارة؟.
التعليقات