لقد تطرقت في مقالات سابقة الى طبيعة الآيديولوجيات السياسية الحديثة في الساحة العربية والإسلامية و التي هي في مجملها آيديولوجيات مشتقة من الفكر القومي العربي ووليده الحديث الا وهو الإسلام السياسي. وتشترك هاتين الآيديولوجيتين بالتعالي العرقي أو الديني (خير أمة أخرجت للناس) ، رفض الآخر، إهمال حقوق الفرد، هيمنة الدولة على الحياة العامة والخاصة و الفاشية السياسية . إن الثقافة السياسية القومية العربية-الأسلاموية تتميز بشكل صارخ بالزينوفوبيا الحادة التي تنظر الى الأجنبي نظرة كره وريبة من جهة و نظرة تعالي وإزدراء من جهة أخرى.
لذا نجد أن العربي أو المسلم عموماَ لا يجد صعوبة في إتقان العلوم أو التكنولوجيا الحديثة المبتكرة من قبل الغربيين ولكن يجد صعوبة هائلة في أن يتعلم من المجتمعات الأخرى حلولاَ للمشاكل الإجتماعية أو السياسية . فنرى أن العرب والمسلمين عموماَ هم في أسفل قائمة المجتمعات في العالم في كافة المقاييس التنمية الإجتماعية على الرغم من أن بعض هذه المجتمعات يتفوق فيها متوسط دخل الفرد على الكثير من البلدان غير المسلمة (بفضل النفط الخام). و أنا أعزوا هذا التخلف العربي والإسلامي المشين بالدرجة الأولى الى ثقافة الزينوفوبيا وكره الأجنبي .
لنأخذ إذن بعض الأمثلة لكي تتضح الفكرة.
حصلت جمهورية كينيا على إستقلالها من بريطانيا عام 1963 بعد حكم أجنبي دام حوالي الثمانين عاماَ. خلال هذه الفترة مرت البلاد بفترات إستقرار وإزدهار وفترات أخرى من الثورات وحركات التمرد. وخلال هذه السنين إستقر عدد كبير من المستوطنين البيض والهنود في أرياف ومدن كينيا. وبعد الإستقلال غادر الكثير من المستوطنين ولكن بقيت أعداد كبيرة أخرى تعمل في الزراعة وتملك مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية وآخرين يعملون في التجارة أو في الأعمال الحكومية. ولم تجد الدولة الكينية الوليدة مانعاَ من أن تمنح المستوطنين الراغبين في البقاء في كينيا بعد ألإستقلال الجنسية الكينية وبهذا إستفاد الإقتصاد الكيني فائدة كبيرة من الخبرات العلمية والتقنية ولإقتصادية لهؤلاء المستوطنين. أما المثال الآخر الذي أود الإشارة اليه فهو جنوب أفريقيا. إن موقع جنوب أفريقيا الإستراتيجي على الزاوية السفلى للقارة الأفريقية والتي تشكل ما يدعى برأس الرجاء الصالح جعلها محطاَ لأنظار القوى الإستعمارية الأوربية منذ إكتشاف الطريق البحري الى الهند. فقد سيطرت هولندا على المنطقة الساحلية في القرن السابع عشر ثم إنتقلت الى حكم التاج الببريطاني في نهاية القرن الثامن عشر. وبعد حروب طاحنة ضد القبائل الأفريقية وثم مع المستوطنين البيض من أصل هولندي في حرب البوير إستتب الحكم للبريطانيين لحين تسليم الحكم الى الأقلية البيضاء في سنة 1934. والجميع يعلم مدى ظلم وإجحاف الدولة العنصرية البيضاء بحق الأفارقة، سكان البلاد الأصليين. ولكن عندما إنتقلت السلطة الى الأغلبية السوداء في بداية التسعينات من القرن العشرين وتسلم نيلسون مانديلا مقاليد الحكم في البلاد بقي الملايين من المستوطنين البيض والهنود في مختلف أنحاء الريف والمدن في جنوب أفريقيا وبهذا نجحت جنوب أفريقيا في أن تنمي إقتصادها وأن تنتفع من الخبرات التقنية الهائلة التي وفرها لها هؤلاء المستوطنون. و تحتل جنوب أفريقيا اليوم المرتبة الأولى من حيث الإنتاج القومي (بحسب إحصاء 2003) في القارة الإفريقية ويمثل هذا ضعف الناتج القومي للدولة الإفريقية التي تحتل المرتبة الثانية وهي مصر . أما من حيث مستوى حصة الفرد من الإنتاج القومي في جنوب أفريقيا فهي حوالي ثلاثة أضعاف مثيلتها في مصر وحوالي ضعفين ونصف مثيلتها في المغرب ومرة ونصف مثيلتها في الجزائر (على الرغم من عائدات النفط). وبفضل السياسة الليبرالية والإنفتاحية على العالم تتمتع جنوب أفريقيا اليوم بمستوى من التعليم الجامعي والبحث العلمي يضاهي ما هو موجود في البلدان الأوروبية على خلاف الحال في البلدان الأقريقية الأخرى بما فيها البلدان العربية.
ولنأخذ الآن بعض الأمثلة من البلدان العربية والإسلامية للمقارنة. ففي مصر بعد حركة يوليو قرر عبد الناصر طرد كافة اليونانيين القاطنين في مصر وكان عددهم يناهز المليون نسمة، بعضهم أقام في مصر لعدة أجيال وكانوا يعتبرون أنفسهم من المصريين. وقد كان جل هؤلاء من التجار ورجال الأعمال الذين فقدهم الإقتصاد المصري دونما سبب ناهيك عن المعاناة الإنسانية التي سببها هذا القرار المجحف. والمثال الآخر هو الجزائر. فالمعروف أن الجزائر حصلت على إستقلالها عام 1962 بعد حرب ضد فرنسا دامت عدة سنوات راح ضحيتها مئات الآلاف. وعند الإستقلال تم ترحيل جميع المستوطنين الفرنسيين وكان عددهم يربو على المليون وكان الكثير منهم يعمل في الزراعة والبعض الآخر في مختلف أجهزة الدولة إضافة الى المدارس والجامعات. ولم يخطر ببال قادة الثورة الجزائرية أن من الممكن أن يمنحوا من يرغب من هؤلاء الجنسية الجزائرية وأن وجودهم قد ينفع الإقتصاد الجزائري. وكانت نتيجة تللك السياسة الزينوفوبية هي أن الدولة الجزائرية ظلت تعاني من شحة شديدة في الخبرات في كافة المجالات التقنية والعلمية لسنين طويلة بعد الإستقلال. و المثال الثالث هو الدكتاتور الأوغندي المسلم عيدي أمين والذي حكم أوغندا 1979-1971 وكان مثالاَ للحكم الفردي العسكري الدكتاتوري و كان من أبرز إنجازاته أنه طرد سبعين ألفاَ من التجار الهنود القاطنين في البلاد بدعوى أنهم من مخلفات الإمبراطورية البريطانية وقد تم ترحيلهم في يوم وليلة بعد مصادرة أموالهم. وقد إستقر معظم هؤلاء في بريطانيا وأنشأ الكثير منهم الأعمال التجارية و نجح آخرون في مضامير شتى من الحياة في بريطانيا وكان ترحيلهم خسارة كبيرة لأوغندا والإقتصاد الأوغندي. أما عيدي أمين فقد قضى آخر أيامه بعد خلعه من السلطة على يد الجيش التنزاني في المملكة العربية السعودية ضيفاَ على حكومتها.
ولنقارن بين تجربتين في التحرر الوطني، الأولى هي جزيرة قبرص والثانية هي العراق. كلاهما خضع لحكم البريطانيين لفترة من الزمان. العراق بعد إسقاط الملكية سنة 1958 عمل على الإزالة الفورية للقاعدتين البريطانيتين في الشعيبة والحبانية (غادر البريطانيون إذعاناَ لطلب الحكومة العراقية آنذاك دونما داعي للبربرية وقطع الرؤوس أو لمقاومة شريفة أو غير شريفة ، لكن هل هناك من يعمل العقل ويتعلم من دروس التاريخ؟). أما قبرص التي دخلت في حرب عصابات ضد بريطانيا بتشجيع من اليونان في وقتها، فقد حصلت على إستقلالها لكن سمحت لبريطانيا بالإبقاء على قاعدتين عسكريتين دائمتين. وقد خلق طرد البريطانيين من العراق حالة عدائية بين دولة عظمى وأخرى وليدة في حين السياسة القبرصية ضمنت صداقة بريطانيا والدول الحليفة لها. فمن كان الرابح ومن الخاسر؟ أترك الجواب على هذا السؤال الى القاريء اللبيب.
والمثال الأخير الذي أود الإشارة اليه هوكارثة عراق ما بعد صدام. لقد أشار الدكتور عبد الخالق حسين في مقال له مؤخراَ الى نكران الجميل من قبل معظم القوى السياسية العراقية تجاه الولايات المتحدة وقوى التحالف التي خلصتها من أعتى دكتاتورية عرفتها المنطقة العربية في القرن العشرين. وقد لاحظ الكاتب أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة على العراق أو المنطقة فقد حصل الشيء ذاته مع البريطانيين سنة 1917 . وهذا صحيح فبعد حملة عسكرية دامت ثلاث سنوات وتسببت في مقتل أكثر من ثلاثين ألفاَ من الجيش البريطاني وجرح وأسر أكثر من ستين ألفاَ منهم جرى تخليص العراق من براثن العثمانيين الذين حكموا العراق 350 سنة دون أن يتركوا وراءهم حتى مدرسة إبتدائية واحدة ناهيك عن الجامعات أو المشاريع الإقتصادية. وخلال عشرة سنوات من دخول البريطانيون الى العراق أفتتحت مئات المدارس وتأسست الكليات والمعاهد العلمية بما فيها كلية طب بغداد وغيرها من المؤسسات الحيوية التي مازال العراق يستفيد منها الى يومنا هذا. لكن كيف كان جزاءهم لدى العراقيين؟ كان أن أصبحت معاداة وشتم البريطانيين هو عنوان الثقافة والوطنية في الأربعينات والخمسينات وبالنتيجة سقط الحكم الملكي العراقي وإندثرت التجربة الديمقراطية للدولة العراقية الأولى، تلك الدولة النزيهة والوديعة التي مازلنا نذرف عليها دموع الندم دون جدوى. ومنذ سقوط الدولة الهاشمية العراقية الى اليوم أدمن العراقيون ثقافة الزينوفوبيا بحجة محاربة الإمبريالية والإستعمار وفي السنين الأخيرة محاربة الكفر والكفار. وبدلاَ من أن يستخدم العراقيون الفرصة الذهبية في دخول الأميريكيون وحلفاءهم الى العراق لمحاولة إعادة بناء البلاد، إختار المجاهدون الأبطال أن يدخلوا البلاد في حرب طاحنة يحترق فيها الأخضر واليابس. إن ثقافة كره الأجنبي التي وجدت أشد تعبير لها في الحركة الخمينية-البن لادنية (الإسلام السياسي المتطرف بشقيه الشيعي والسني) تؤدي الى القاء اللوم على الآخر والى بلادة سياسية تجعلنا نعادي ونحارب حتى الذين يقدمون لنا العون.
و لنعود الى المقارنة بين البلدان الإسلامية وغير الإسلامية كي نحاول أن نتفهم جذور المشكلة ولنسأل أنفسنا: مالذي كان سيحصل لو أن جنوب أفريقيا أو كينيا كانت بلداناَ إسلامية؟ هل كان سيمنح المستوطنون مهما طال بهم الزمن جنسية البلاد؟ أم إنهم كانوا سيطردون من البلاد شر طردة إن لم يتم ذبحهم بالجملة على شاكلة المقاومة الإسلامية الشريفة في العراق؟
الجواب هو بالتأكيد أن لو كانت جنوب أفريقيا بلداَ إسلامياَ لتم طرد كافة المستوطنين البيض والهنود و مما كان سيؤدي الى تدمير إقتصاد البلاد مثلما تم تدمير الإقتصاد الجزائري ومثلما يتم اليوم تدمير إقتصاد العراق بحجة تحريره من الحكم الأجنبي.
إن هذه الزينوفوبيا المرضية المدمرة قد وصلت أوجها في البربرية العمياء التي تمارسها اليوم مجاميع الإرهاب والميليشيات في العراق. ويخطيء من يتصور أنه في مأمن من هؤلاء الأوباش أينما كان في الشرق العربي.
- آخر تحديث :
التعليقات