يكثر الحديث في هذه الأيام عن سيناريوهات التواجد الأمريكي في العراق، وذلك بعد أن تصاعدت حدة العنف في هذا البلد الجريح، وبعد أن لاحت علامات عدم تمكن حكومة السيد جواد المالكي من تحقيق تقدم ملموس على صعيد الأمن الذي يعد النقطة الجوهرية بالنسبة للشعب العراقي برمته، بل كان ذلك الأمل الكبير الذي بشر به السيد المالكي الشعب العراقي على أثر إنتخابه رئيسا للوزراء. ومن الجدير بالذكر، أن الحديث طالما يكثر حول سيناريوهات الموقف الأمريكي في العراق كلما تتعقَّد المسألة الأمنية، حيث تطرح التصورات والأحتمالات حول هذا الموضوع في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ويدور حولها جدل كثير وعميق، ولكن كثيرا ما تأتي النتائج معاكسة للتوقعات والدراسات، مما يشير إلى مدى إشكالية الموضوع وغموضه وصعوبة البت به.
السيناريو الاول هو بقاء الحال على ما هو عليه، ليس عملا بحجية الاستصحاب التي طالما وزير التربية العراقي يتوسلها تفكيرا وإستدلالا ــ وهي أكثر الوسائل بدائية في التفكير في مثل هذه الموارد ــ بل لأسباب أخرى بطبيعة الحال، قد لا تخفى على خبراء السيد المالكي، وهم خبراء من الطراز الرفيع كما سمعت. فيما يشيع في هذه الايام أن هناك طبخة إنقلاب عسكري دُِّبر أمره بليل، بالتعاون مع بعثيين قدامى، وهو ما يستبعده الكثير من المحللين لما تنطوي عليه مثل هذه المحاولة من مخاطر تربك وتقلق الإدارة الامريكية، بل وهناك همس مفاده أن دول الجوار الصديقة حذرت الإدارة الأمريكية من مغبة هذه المخاطرة، فقد يكون لها انعكاس سلبي على أنظمتها بالذات، على أننا نسمع و نقرا أن الأمريكان يفكرون جديا باستمرار دعهمم للسيد المالكي، بل بزيادة هذا الدعم وتصعيده، فهو الرجل المناسب للقضاء على حالة الإنفلات الأمني، وإذا ما تعثر في عمله اليوم سوف ينجح غدا، شريطة دعمه بمزيد من القوات والمعدات والمعلومات وإعطائه هامشا أوسع من حرية العمل والتحرك، وهو ما لمح إليه الرئيس بوش في خطابه الأسبوعي الأخير. رابع هذه السيناريوهات هو الانسحاب من المدن، وترك مسؤولية الأمن بيد العراقيين، ويضيف بعضهم على ذلك، أن أمريكا مطمئنة أن هذا الا نسحاب سوف يقود إلى تفجير الوضع في العراق، خاصة المناطق الجنوبية مما يستدعي رجوع القوات الأمريكية إلى المدن، وعندها ستتاكد الحاجة إليها موضوعيا وميدانيا. يطرح بعضهم سيناريو خامس، مؤداه، أن الامريكان جادون الان في سحق المليشيات وتدميرها بقسوة وبلا هوادة، ذلك أنهم ملُّوا من تباطئ وضعف حكومة المالكي، وربما هم الذين وضعوا المالكي في موقفه الحرج هذا، كي تتأتى لهم فرصة مبررة لمثل هذا السيناريو، ويستدل بعضهم على ذلك بالاخبار المتسربة عن نية الامريكان بزيادة عدد قواتهم في العراق، وتصريح بوش بأن أمريكا سوف تعيد النظر ببعض المسائل التكتيكية، أو لأن بوش يريد أن ينجز ما يحقق لحزبه بعض المكاسب الإنتخابية المقبلة.. على جهة اخرى يحلم بعضهم بسيناريو من نوع أخر، أن الامريكان قد يتساهلون مع مشروع الاقاليم، فإن مثل هذا المشروع قد ينقذ أمريكا من ورطتها، تخرج بماء الوجه وكفى،فيما يستبعد محللون كبار مثل هذا التصور، وقد حسم بوش الموقف هنا بالرفض المطلق. في زحمة هذه التصورات يشخص تصور إنقلابي مهم، فما المانع أن تنقلب أمريكا على موقفها العدائي المتعنت تجاه إيران، وتُعقََدْ صفقة العمر، يتم بموجبها تبادل مصالح ومطامح بين العدوين اللدودين، تساهل أمريكي تجاه المشروع النووي الأيراني من جهة وإطلاق يد أمريكا في العراق من جهة ثانية، ولكن ليست الأمور بهذه السهولة، ذلك أن المشروع النووي الإيراني حسب التصورات الأمريكية أخطر من المشروع الكوري الشمالي، وأن طموح إيران اقليمي بل ربما عالمي، ومن ثم من يدعي أن كل صناع القرار الأمريكي مع هذا التصور، وتقسيم المصالح هنا قد يرتطم بالكثير من العقبات والعوائق، وبمقدار ما تبدو معقولية هذه السيناريو، فإن هناك ما يؤكد عدم معقوليته. في هذه الأثناء قد يرى بعضهم أن الأمريكان قد يحسموأ أمرهم في العراق بتوجيه ضربة إلى سوريا، حيث تقطع أحد إمدادات الإرهاب، وتتهيا فرص أعمق لتحقيق السلام، وهو تفكير يمت إلى الأماني أكثر مما يمت إلى العقل والواقعية، على أن بعضهم يتكهن بان أمريكا قد تفرض على الأ كراد العراقيين عقد صفقة سياسية مع السنة، وبمباركة الإمريكان أنفسهم بشكل وأخر لتشكيل جبهة ضغط لمواجهة الشيعة، فتختل الموازنة، مما يضطر الشيعة إلى الركون إلى الهدوء. ويتطلع أخرون إلى سيناريو قد يقتنع ب الأمريكان، ذلك هو تحويل القضية العراقية إلى قضية دولية، فتشارك أوربا وبعض دول العالم الإسلامي بالتواجد الفاعل في العراق، وفق خطة يتفق عليها الجميع.
والأن...
أي السيناريوهات المحتملة تملك حظا أكبر من الواقعية والعقل؟
شخصيا: أتصور أن الأمريكان في الأيام المقبلة سوف يلجأون إلى منطق القوة بكل ما أوتوا منها للتعامل مع كل الأطراف، بصرف النظر عن أي انتماء مذهبي أو قومي أو حزبي، سواء في الرمادي أو الثورة أو كركوك، وربما يكون التركيز على جيش المهدي قبل غيره، في الواجهة قوات عراقية من جيش وشرطة تدعمها طائرات أصحاب القرار بالعمق، وإذا صح هذا التوقع سيكون حقا بداية الوجود الأمريكي في العراق وليس التواجد الأمريكي في العراق، وفارق كبير بين التصورين أو الحالتين.
في زحمة كل هذا التوقعات والتصورات لا ندري ماذا يدور في ذهن السيد المالكي، وربما مستشاروه السياسيون أكثر منه حيرة، حيث يحضِّرون يوميا أوراقهم لتدوين الملاحظات والأفكار، ثم يمضي الوقت، وإذا بتلك الأوراق تبقى بيضاء، والاقلام تبقى ساكنة على طاولة المكتب الجميل حتما.
وإلى اللقاء بحلقة قادمة بإذن الله تعالى.
[email protected]