من أزمة المثقفين إلى تكرار الاعلاميين

العلاقة بين الثقافة والاعلام...
أصبح من البديهي ومن التكرار القول أننا نعيش في عصر الصورة على حساب المعنى وان وسائل الإعلام أحدثت تغييرات جذرية على مستوى الممارسات الثقافية للمجموعات والأفراد على حدٍّ سواء. ولم تنجُ من هذه التأثيرات لا المجتمعات المنغلقة ولا المفتوحة التي تشهد حركًا دائبا على المستويات السوسيولوجية، والثقافية والأنتربولوجيّة... وهو ما يَطرحُ العديد من الأسئلة حول نوعية وعمق واتجاه هذه التطورات داخل الثقافات وامتزاجها ، وان كانت هذه الوسائل الإعلامية لا تعبّر بالضرورة عن أشكال من التفاعل الحقيقي بين المضامين التي تمرّرها وبين المجتمعات والثقافات التي اخترقتها هذه الوسائل سواء انفتحت عليها طوعا أم كرهًا.
فالعلاقة الجدلية دائمة بين قطبي الثقافة والإعلام اللذين لا ينفصلان عن بعضهما، ولطالما طالعنا النقادّ بمقالات، تنتقد وسائل الاتصال و الإعلام ودوره السلبي او الايجابي وتأثيره على المضامين الثقافية، متهمينها بابتلاع أشكال الثقافة و تأثيرها المباشر في تدمير البنى الثقافية والممارسات على حد السواء.
ولكن إذا دققنا في هذا الصراع الدائر نجد أنه يرتبط بمفهوم يتمحور، حول علاقة الثقافة بالإعلام، و حول طبيعة السؤال المطروح حولهما, فهل نطرح السؤال بالشكل التالي: ماذا تفعل وسائل الإعلام والاتصال بالثقافة ؟ أم ماذا تفعل الثقافة في وسائل الإعلام؟
وغالبًا ما يُعرب حرّاس quot; الهوية quot; عن قلقهم وخوفهم من وسائل الإعلام والفضائيات, وأنها تعمل على تخريب الثقافة الراديكالية أو التي ترتبط بالتراث بشكل مباشر .
هذا التيار يَطرح الارتباط بين وسائل الاتصال الإعلامية منها وغير الإعلامية والثقافة عادة بطريقة إشكالية منفصلة، وكأنّ كلّ واحد منهما بمواجهة الآخر ومنفصل عنه ، في حين ان مراجعة التاريخ أركولوجيّا ، تظهر أن اكتشاف وسائل الاتصال أحدثت هزات ثقافية، وبناء عليه فإن جدلية العلاقة بينهما قديمة قِدمَ التحوّلات التي شهدتها وسائل الاتصال.
فالعلاقة بين الثقافة والإعلام علاقة متحركة، والفصل بينهما ولو شكليًّا يُعد خطأ منهجي بنيوي ويعيق عملية فهم تلك الحركة المتبادلة الدائرة بينهما .
فالإعلامكما العادات كما التقاليد كما الدين كسائر مفردات التركيبة الانتربولوجيّة للمجتمعات تتقاطع مع بعضها البعض، ولا يمكن فهم واحدة منها بمعزل عن الأخرى.
وعندما يحصل تنافر بين ثقافة الشاشة والثقافة المحلية أو الشعبية، فإننا نكون أمام انفصام ثقافي ، وليس أمام حرب بين الثقافة والإعلام.
فعملية الفصل بين الثقافة والاتّصال هي عملية واهمة فوسائل الاتّصال والإعلام تنخرط في جملة القيم التي تُنْتجُها الثقافة.
فالانفصام الثقافي ممكن ان يحصل بين أي مكونيْن، ذو مضامين متناقضة من مكونات ثقافة واحدة.
فعلى سبيل المثال يتعارض بعض الشعائر الدينية مع بعض التقاليد الشعبية ضمن مفردات الثقافة الواحدة، وهو ما يحصل أيضا بين ثقافة النخبة وثقافة الشاشة، فوسائل الإعلام ينبغي أن تستمد مضامينها من اتساق الحياة اليومية، بطريقة يتمّ فيها المزاوجة بين وظائفها الرئيسية وهي الإخبار والتثقيف والترفيه علاوة مواجهة التحديات الخارجية والداخلية,والمنافسة الشديدة وهو ما يتطلّب اعتمادها على كل مقومات الثقافة دون استثناء.
ولعل من أهم خاصية الرموز الثقافية هي اللامادية و الانتقال السريع، كما أنها تتميز بإمكانية إخضاعها quot;للأدلجةquot; لدرجة مبالغة فيها، لأن من أبرز مقوماتها اللغة، والفكر بجميع مستوياته، والعلم والمعرفة، بالإضافة الى العقائد والديانات والقيم والأعراف الثقافية.

لذلك فإنها تتميز بقدرة عالية على شحن الطاقات، وهنا يبرز دور وسائل الإعلام لاسيما الوسائط المرئية وهو دور مزدوج فإما أن تتحول الشاشة الى أداة فاعلة في الحوار بين الثقافات، أو تتحول الى أداة تفتيت مدمرة تغذي العصبيات المذهبية والعرقية ضمن الشعب الواحد quot; وتساهم في إنتاج مجتمع مشحون يحوله الى ارض خصبة للحروب الأهلية، و تصبح شاشة القمامة أداة تسويق لثقافة طاعة الأيديولوجيات المتصارعة.

أمام كل ذلك فإنه من الأهمية بمكان تحديد الإجابة عن أسئلة مهمة بدقة مفادها:
أي منتج فكري تريد وسائل الإعلام أن تقدم ؟؟؟ و هل هذه الوسائل منتجة لعقليات منفتحة مبدعة قادرة على خلق فرص التعايش والمشاركة في البناء السوسيولوجي؟؟؟ والعمل السياسي ؟؟؟وهل تساهم مساهمة فاعلة في تطوير وتنمية الفكر النقدي؟؟؟والتفاعل الحضاري وطرح القضايا بشكلها العقلاني؟؟؟
و انطلاقا من ذلك كله، فإن المسؤولية لا تقع فقط على وسائل الإعلام بل على كافة مفردات التركيبة المجتمعية، فتتحول عندها إلى أداة للابتكار والإبداع والخلق لا أداة للتضليل، بالإضافة الى أداء وظيفتها في مناخ تسوده حرية الرأي والتعبير , وتشارك فيه كل الكفاءات القادرة على الإبداع والتجديد والتواصل مع الآخر، وهو ما يوفّر فرَصَ انخراطٍ متوازنٍ في ما يصطلح عليه بمجتمع المعلومات.

علاقة المثقف النخبوي بالاعلام:
بناء على ما تقدم تُطرح إشكالية أخرى و هي علاقة المثقف النخبوي بالإعلام وضرورة انخراطه بها، حيث يظهر الآن التباين الصارخ بين منتج المثقف النخبوي الفكري والمنتج الميديائي الإعلامي، فالإعلامي اليوم يمارس دورا نخبويا مارسه قبله المثقف في عصر الصحافة المكتوبة.
وتطل علينا الفضائيات العربية يوميّا بنقاشات و حوارات تعالج ما تسميه بالقضايا السياسية والفكرية والثقافية وغيرها، توصَف بالسَّاخنة،وغير الساخنة، وأصبح لهذه البرامج رموز ونجوم ( متفق عليهم)،تتنافس إدارة البرامج في استقطابهم واجتذابهم، إن من حيث الضيوف فتتكرر استضافة الشخص الواحد منهم في أكثر من فضائية خلال فترة وجيزة، أو من حيث مقدمي هذه البرامج، حيث أصبح البرنامج مرتبط بمقدمه أكثر من ارتباطه بالفضائية نفسها، لذلك تنهال على بعض مقدمي البرامج العروض المالية المغرية كعامل جذب بين فضائية وأخرى..... حيث تَعدّتْ مهمتهم من التقديم الى تقييم المواقف وإطلاق الأحكام، فأصبح الإعلامي يتدخل في كل شاردة وواردة ، لذلك وقعت معظم الفضائيات في التكرار والمشابهة في لحظتنا الثقافية، في ظل شيوع نمط الإعلامي الجاهز المتورط بإعادة إنتاج ظاهرة المواضيع المكررة,وأمسى الإعلامي -خصوصًا في الفضائيات العربية- يمارس عقلا مركزيّا تكرست عوامله الوجودية والإجرائية بفعل انحسار عوامل ثقافة النهضة على حساب ثقافة الشك بالآخر.
وهذا ما يجعلنا نعيد التساؤل ولمرات متكررة حول ضرورة تأهيل البرامج الثقافية لتكون فاعلة، واعتقد أن إنقاذ الثقافي من أزمته والإعلامي من تكراره سيكون هو الأساس في إنقاذ السياسي من خرابه الإيديولوجي،وبالتالي تهيئة العوامل الموضوعية للحديث عن تنمية ثقافية فاعلة.
ولعل إعادة النظر في طبيعة علاقة المثقفين بوسائل الإعلام من الأهمية بمكان ليس من حيث كونهم يُصنّفُونَ افتراضيا ضمن جمهورها، بل باعتبارهم مدعوين الى تعزيز فرق الإنتاج والتجديد والابتكار داخل مؤسسات الإعلام التي تخوض حاليا حرب البقاء وكسب معركة المنافسة التي يفترضها الإعلام المُعَوْلَمُ.

كاتبة لبنانية
[email protected]
http://marwa_kreidieh.maktoobblog.com