ترددت كلمة (العظيم) كلما ورد ذكر شعب العراق في الخطابات السياسية والأدبية التي ترد على لسان الشخصيات وفي أدبيات الأحزاب السياسية العراقية ، حتى كتب الدكتور كاظم حبيب مقالاً بعنوان (هل الشعب العراقي عظيم دون الشعوب الأخرى؟) يفند فيه مقولة الشعب العظيم فيقول :
(علينا أن نفكر كثيراً بهذا المصطلح quot;العظيمquot; الذي نلصقه بشعبنا يومياً ودون وعي وحوار داخلي أو ذاتي حول ما نكتب. إنها محاولة جادة لإبعاد الشعب في العراق بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية عن الحالة المأساوية التي يعيش فيها الناس طيلة عقود وقرون والتي تسببت بها النظم السابقة, وخاصة النظام الصدامي المخلوع, وما يعاني منه اليوم هذا الشعب.).
وحقيقة إننا نقرن كلمة العظيم في خطاباتنا ومقالاتنا دون تبصير وتقليب ، حقاً أو باطلاً، فنحن نكتب الكثير من الكلمات الممزوجة بالعواطف ، والبعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع ، ولم يقتصر تداول الكلمة وإطلاق الصفة على جهة سياسية معينة، إذ استخدمتها كل الأطراف باختلاف أفكارها السياسية، وصارت لازمة من لوازم الخطابات السياسية والبيانات الصادرة عنها.
كنا طلاباً في المدرسة الابتدائية حين طرق أسماعنا كلمة (الشعب العظيم)، ونحن نصطف طوابير حسب مراحلنا الدراسية، يختار مدير المدرسة أو المرشد المسئول عن الاصطفاف الصباحي أحد الطلبة ليلقي قصيدة رنانة أو خطاباً سياسياً يمتلئ بكلمات التفخيم والأطناب والرطانة الملحقة بكلمة (هذا الشعب العظيم)، ودون أن يسأل أحد نفسه من أين جاء شعب العراق بالعظمة وهو لم يزل يمتلئ بطوابير الشحاذين وأرتال الفقراء والمعوزين؟ من أين جاء بالعظمة وهو لم يزل يستلم معونة الدول الغنية من مساعدات غذائية يوزعها على المحتاجين والمتعففين من أبناء هذا العراق العظيم؟ من أين جاء بالعظمة ونصف طلاب المدارس يستلمون معونة الشتاء التي كانت تتفضل الحكومة بتوزيعها على الفقراء ومنعت حين حل زمان البعث على العراق؟ من أين جاء بالعظمة وهو الذي لم يتوقف عاماً واحداً عن استيراد الملابس المستعملة التي ترميها الناس في بلاد الغرب بالمزابل أو تودعها الى مؤسسات خيرية وإنسانية؟ من أين جاء العراق بالعظمة وهو لم يزل من بلدان الخراب والفقر ويعيش أكثر من نصف أهله تحت خط الفقر؟ ولم تزل الأكواخ تملأ الجنوب والشمال والشرق والغرب، ولم تزل طرق بلداته متربة ومظلمة ولاتصلها ابسط مستلزمات الحياة الضرورية من ماء وكهرباء، ولم تزل الأرياف تفتقر الى ما تفتقر له بلدان أفريقيا الغارقة في مجاهل الاستواء.
وبلدنا (العظيم) الذي يفتقر الى أبسط ما تستلزمه حياة الإنسان، وبحاجة ماسة للمنتجات النفطية التي نبيعها للعالم ونتحسر على شحتها في بلادنا، فلم تكن تلك المنتجات متوفرة بيسر وسهولة في يوم من الأيام للمواطن العراقي الذي تعود على اللهاث والركض خلفها للحصول على قنينة غاز أو صفيحة نفط يطبخ بها طعامه ويسد بها قوته أو يستعين بها على شتاء العراق القارص، وبلدنا (العظيم) الذي لم تزل الأمية تنخر عظامه والجهل يبرقعه، والخوف ينام معه، لايستغني عن عظمته يوما واحداً.
لم نزل نستلم المساعدات الغذائية التي نقش فوقها أكياساً وصفائح كلمة مساعدة الحكومة الفلانية الى الشعب العراقي دون إن يذكروا (العظيم) أمعاناً في إذلالنا وجرحاً لمشاعرنا التي ماعادت تشعر بشيء، فلم تزل حكومتنا تستلم المساعدات الغذائية وهي توزع خيرات العراق ووارداته بين الحروب والمؤسسات الأمنية والهبات والرشاوى التي وصلت الى أقصى الأرض ولم تصل الى فم الجياع من العراقيين دون وخزة ضمير، وبلادنا المسروقة دائما سواء من أعدائها أو من أبنائها .
من أين تأتي العظمة ونحن ننتقل من احتلال الى احتلال؟ ومن طاغية الى دكتاتور، ومن انقلاب الى انقلاب، ونحن نتقلب بين غياهب السجون والمنافي وسلطات الأمن والمخابرات، ومن أين نأتي بالعظمة ونحن لم نزل حتى اليوم نعتمد تقاريــــر المخبرين (والمواطنين الصالحين) في إخبارياتنا؟ من أين تأتي العظمة ونحن لم نزل حتى اليوم نبجل الاحتلال العثماني ونعتبره وساماً نتمسك به في منح بعضنا شهادة الوطنية؟ ومن أين تأتي العظمة ونحن نقوم بتسفير أهلنا بحجة التبعية الفارسية ونبحث عن الأصول والجذور؟؟ من أين تأتي العظمة ونحن نتعاير ونتنابز بالألقاب والقوميات والمذاهب والأديان؟ من أين ونحن لم نزل نرزح تحت أحتلالات منها ماهو استلاب عراقي ومنها ماهو استلاب أجنبي، غير أننا نصفق للجميع ونفديهم بدمائنا رغم إننا نشكو من فقر الدم لسوء في التغذية،ونفديهم بأرواحنا ونحن لم نزل نموت من خوفنا منهم جميعاً ، ومن أين نأتي بالعظمة ونحن نتبرقع ببراقع الدين والوطنية ونعلن مالا نعتقد، ونرفع ما لانؤمن؟
نحن شعب سومر وبابل وأكد والنمرود والحضر ونبوخذ نصر وآشور بانيبال، أجل ولكننا شعب لانختلف عن بقية الأمم، بل أننا تخلفنا عمداً عن المسير مع مواكب الأمم، ونضع كل ما علينا فوق شماعة السلطات الطاغية التي تعاقبت على جلدنا وحبسنا وصلبنا منذ سلطة نبوخذ نصر ومروراً بالسفاح العربي الأصيل أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والحجاج بن يوسف الثقفي، ومروراً بالسفاح ناظم كزار وأبو درع وبرزان التكريتي والزرقاوي وصدام حسين وكل من سيسجله التاريخ بعدهم من سفاكين وسفاحين وقتلة.
المصيبة إننا نعرف إننا شعب كباقي الشعوب، لكننا أدمنا الوهم وتعودنا عليه وأشبعنا أولادنا من كلمات منفوخة ومتخمة بالهواء، ونحن أعظم الشعوب ودون ذاك فليسقط التأريخ ولتنتهي الجغرافية.
المصيبة إننا بدأنا نتداول قصصاً وروايات وحكايا تسرد عظمة العراق، وأننا أرقى من غيرنا كرماً وشجاعة وثقافة وارثا، حتى ظننا بأننا أصحاب الفضل على الإنسانية لأننا علمناهم الكتابة والقراءة واكتشفنا لهم النار، ولكننا لم نتعلم كيف نشبع وكيف نكتفي بما لدينا من ثروات وكيف نتطور مع تطور العلم؟ بل لم نتطور مع تطور الكتابة ولا تطورنا مع تطور النار، لم نتعلم كيف نتجانس مع الفكر الأنساني وكيف نطور أنفسنا وبلداننا فبقينا نراوح في اماكننا.
جاء في لسان العرب أن العظيم الذي جاوَزَ قدْرُهُ وجلَّ عن حدودِ العُقول حتى لا تُتَصَوَّر الإحاطةُ بِكُنْهِه وحَقِيقتهِ.
فهل نحن من هذه العظمة؟
كيف يمكن أن يتم تصنيف الشعوب الى عظيمة وخاملة لم تبلغ حدود العظمة؟ وماهو المقياس للتفريق بين المجموعات البشرية؟ ولماذا تحرص الشعوب المتخلفة ودول العالم الثالث على منح نفسها ألقابا تنم عن افتقارها للصحة وتتناقض مع واقعها؟ وسعيها وراء ما تفتقده من صفات، وغالباً ما يطلق تلك الصفات أفاقون وسياسيون أدعياء ودجالون يجنحون الى الأطناب وإطلاق الصفات الرنانة التي يمكن إن تخدع السذج من الناس من أننا شعوباً عظيمة خلقت لتقود بقية الأمم، وأننا أشرف الأمم حيث اصطفانا الله من بين كل تلك الأمم.
ومن يدقق في صفة العظيم لن يجدها إلا في منطقتنا العربية التي ابتليت بالتفخيم والنفخ وبالونات الألقاب ن ولم نجد تفخيماً مثل هذا لدى كل باقي شعوب الأرض.
وفي كل الآيات القرآنية التي وردت في القرآن الكريم لم ترد صفة الشعب العظيم، وإنما ورد اليوم العظيم ، والآجر العظيم، والقسم العظيم، والفوز العظيم، وذو الحظ العظيم، والنبأ العظيم، والذبح العظيم، والظلم العظيم، وجاء في الشرح والتفسير أنه بمعنى القَوِيّ الدَائِم.
((وما مر عام والعراق ليس فيه جوع))، وجوع وعظمة، وخوف وعظمة، وموت وعظمة، و (نحن جيل القيء والزهري والسعال)، وأقبية سجوننا تتسع لكل مرضانا الذي لم تستوعبهم المستشفيات، وقصور مسؤولينا تستوعب لإيواء كل فقراء المدن الذين يبيتون دون مأوى ودون سقف، وطابوق الجداريات التي تؤله الأشخاص في ساحاتنا العامة تكفي لسكن مئات العوائل المعدمة، ومخصصات السفر للراحة والاستجمام تكفي لإطعام نصف شعب العراق الجائع دوما والمتمسك بالبطاقة التموينية.
منذ عشرون عاماً والآلاف تتدفق لهجرة العراق (العظيم)، وتزداد الأعداد تبعاً لاشتداد المحنة، وما توقفت، ولو جمعت طلبات العراقيين المقدمة الى مكاتب الهجرة واللجوء لصارت اكبر الكتب المأساوية، وبلد عظيم مثل العراق فر علماءه وأطباءه ومهندسوه ومبدعيه بعيداً عنه لايمكن له إن يعوضهم، وبلد (عظيم) مثل العراق لم يزل يعلم الأجيال القادمة بعظمته الزائفة وواقعه المفجع.
شعب عظيم يمنح قادته رشى ومنح وهبات تكفي لبناء مدن للفقراء، شعب عظيم ونحن نتعامل بالذبح والرصاص في اختلافاتنا، ولم نتعلم من زمن الشعوب الأخرى كيف يكون الاختلاف السياسي، شعب عظيم ونحن نسم من يختلف معنا عميلاً وخائناً وطابوراً خامساً، ونطعن في أخلاقه وعائلته ونشتم أهله، نحن شعب عظيم ونحن ننبش قبور موتانا ونشتمهم ونختلف على قضايا مضى عليها أكثر من 1400 عام.
نحن بشر مثل باقي الشعوب، لنا سلبياتنا وايجابياتنا، ونحن جزء من المنظومة الإنسانية وعلينا إن نتواضع ونعرف مانشغله ضمن منظومة القيم الإنسانية، وقيل إننا شعوب من العالم الثالث، وقيل إننا شعوب نامية، وقيل إننا شعوب غافية، ومهما قيل فسنبقى بشراً وجزءا من البشرية وخير الأمم والشعوب من قدم الخير والعلم للإنسانية، وأن نعي تطور الزمن وتغير القيم تبعاً لذاك التطور، وأنه لايوجد شعب عظيم فالعظمة لله وحده.
التعليقات