في وقت تجري فيه استعدادات مؤتمر المصالحة الوطنية العراقية أعلن التيار الصدري على لسان أحد قادته أنه غير معني بالمؤتمر المذكور فيما لو شارك فيه بعثيون ، وبهذا يكون التيار الصدري قد مارس مرة أخرى سياسة المقاطعة مع حكومة المالكي ، فقد سبق له أن علق شراكته بالحكومة بسبب لقاء بوش / المالكي ، وكثيرا ما يهدد بسياسة المقاطعة هذه على أثر أدنى خلاف له مع الحكومة ، وفي الحقيقة أن نزعة التقاطع بالنسبة للتيار الصدري مع الآخر تعبر عن نزعة متأصلة في مواقفه بل في فكره ، وهذه النزعة سوف تؤول إلى عزلته عزلة قاسية ، لا تصب في صالحه ولا في صالح الوطن والشعب ، وآخيرا ، ليس في صالح ( أتباع أهل البيت ) الذين رفع لواء الدفاع عنهم كما يقول تصريحا وتلميحا .

يتخذ التيار الصدري مسافة عازلة بينه وبين المجلس الاعلى للثورة الإسلامية ،وتاليا ، فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى بشكل وآخر ، وهذه العزلة قديمة قد تمتد جذورها إلى أيام صدام حسين ، وتتصل بموقف (عائلة الحكيم ) من ( عائلة الصدر ) الذي إتسم بنوع من الجفاء والتنابذ لأسباب كثيرة غير غائبة على العراقيين ، وقد تطورت العزلة في كثير من الأحيان إلى قتال دام ، هدَّد الوجود الشيعي بالخطر الما حق ، وهو قابل للتفجر بين لحظة وآخرى ، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا متغافل . وليس من شك ، وكما هو معروف ، يتقاطع التيار الصدري بشكل عام مع التيار السيستاني ، الذي يعتبر تيارا مليونيا ليس في العراق وحده ، بل في العالم الإسلامي ، ويعلل بعضهم هذه المقاطة بسبب الصراع على السلطة الدينية ، أو لأن التيار الصدري يرى في مرجعية السيستاني مرجعية صامته حسب تعبيره ، أي ليست مرجعية ثورية ، وإذا ما أردنا إنصافها فهي لا تعدو كونها مرجعية إ صلاحية ، وكثيرا ما تكتسي هذه المقاطعة سمة التشنج وربما الصدام ، ولو بمستوى أقل مما هي عليه المقاطعة من المجلس الأعلى ، ونتيجتها النهائية ضعف الوجود الشيعي الذي ينتمي إليه التيار الصدري بالذات . ويتقاطع التيار الصدري بدرجة وأخرى مع حزب الفضييلة ، وأسباب هذا التنابذ يرجع إلى صراع بين قيادات روحية داخل التيار حول زعامة التيار ، ومسؤوليته المرجعية ، وكان لهذا التقاطع مستحقات موجعة على جسد التيار نفسه . ولم تكن علاقة التيار بحزب الدعوة تسنتد إلى أسس قوية متينة ، خاصة وإن نزعة التيار تتصادم مع الروح الحزبية ، لأنها ذات جذور ونكهة غربية كما يقول منظرو التيار .

هذه التقاطع بين التيار الصدري وبقية مكونات الوجود الشيعي في العراق يتواصل مع تقاطع التيار مع مكونات قومية ومذهبية أ خرى ، فهو ليس على توافق أو تفاهم معتد به مع القوى الكردية في كردستان ، وهناك خلاف نظري عميق بين موقف التيار تجاه الفيدرالية وبين موقف الأحزاب الكردية ، كما أن هناك إختلاف جوهري بينهما في قضية مصيرية بالنسبة للاكراد ، تلك هي قضية كركوك ، وتتسم علاقته بتيار أو حزب الوفاق الوطني بالعداء والسلبية المطلقة ، وفيما كانت العلاقة بين التيار الصدري وبعض القوى السنية متينة ، بل قد تكون ستراتيجية ، كما هي مع هيئة علماء المسلمين ، لتوافقهما على كثير من النقاط المهمة ، مثل ضرورة خروج المحتل فورا أ و جدولة إنسحابه ، ورفض النظام الفيدرالي ، وغيرهما ، نجد إن هذا التوافق إنقلب إلى عداء شرس ، حتى باتت الإتهامات المتبادلة بين التيار والهيئة يومية ، وذات نكهة تجريمية وتخوينية ، بل تهديدية .

أن مراجعة بسيطة لهذه الصيغ من التقاطع بين التيار الصدري وأكثر مكونات الشعب العراقي تؤدي بنا للإستنتاج إن التيار يورط مصيره بعزلة قاتلة ، وقد تتطور هذه العزلة إلى مواقف صعبة ، يستحيل معها على التيار أن يتحرك بفاعلية ونشاط ، ويستحيل معها على التيار أن يتحول إلى قوة محركة ، وقادرة على صنع تاريخ ينسجم مع توجهاته الدينية والإصلاحية والسياسية . هنا نسجل نقطة في غاية الخطورة ، ذلك أن حكومة السيد المالكي طالما تصرح علنا أن أحدى مشاكلها التي تعوق عملها ، وتحول دون خططها في إحلال السلم الأهلي ، ومن ثم البدئ برحلة الإعمار والبناء والإزهار هي المليشيات ، والتيار الصدر مليشيا ، ومليشيا تتواصل مع أكثر مكونات الشعب العراقي بصيغ سلبية ، تتقوم بروح المقاطعة والتنابذ ، وكثيرا ما تتواصل مع الحكومة بالذات بمثل هذه الصيغ التي تربك عملها ، وتزيد من العصي في عجلتها ، مما يجعل التيار على خطى الإرهابيين من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر في إرباكه للدولة ، وتعريض مسيرتها لمزيد من العراقيل والمعوقات .

يستند التيار إلى قاعدة شعبية عريضة جدا ، وهذه القاعدة ذات إمكانات متطورة ، وفاعلة ، ولكن رغم كل هذه الممكنات قد تتعثر مسيرة التيار ، وتتعرض لخطر كبير فيما يدخل في علاقة سلبية مع الأخر ، خاصة وإن مساحة هذا الأخر تتسع لمفردات كثيرة ، وذات عمق شعبي ، وحضور رسمي ، بما في ذلك الحكومة . ومثل هذه العزلة التي يفرضها التيار على نفسه قد تقود إلى توافق عن تخطيط أو عن لا تخطيط بين كل المكونات الأخرى لمواجهة التيار الصدري، وقد تكون الحكومة في الصميم من هذا التوافق ، مضطرة غير مختارة ، الامر الذي قد يدخله في معركة شاملة مع هذا التوافق الصدفي أو المقصود ، وعندها سيكون موقف التيار في غاية الإحراج ، وربما يأتي على كسره وتفتيته وتشظيته ، وفي ذلك خسارة حتى للشيعة الذين يدعي الدفاع عنهم .

إن التيار مدعو إلى كسر هذه العزلة قبل أن تستفحل وتشتد ، وأعتقد أن البداية هي التخلي عن بعض الشعارات الطوباوية ، ومن أبرزها فرض جدول إنسحاب القوات المتعددة الجنسية ، والتخلي عن كل نشاط هو من وظيفة الحكومة وليس من وظائف وحقوق الأحزاب والمنظمات السياسية ، ومن ثم ينبغي على التيار مد يد التعاون مع الحكومة جديا ، وعدم إحراجها بمطالب فوق طاقتها ، ولا تتمتع بمواصفات موضوعية حقيقية .
إن حكومة المالكي ضعيفة ، والجماعات الإرهابية تريد أن تسقطها ، وهناك تلكؤ أمريكي بإعطائها صلاحيات أمنية وعسكرية واسعة وعميقة ، فإذا ما قرر التيار الصدري الإستمرار بسياسة المقاطعة والإحراج والإرباك ، إنما يكون قد ساهم في إضعاف الحكومة ، الذي يعني بصورة غير مباشرة ، دعم القاعدة التي تريد أن تستأصل الجميع فكرا وإنسانا ، وفي المقدمة التيار نفسه ، فهل يرعوي التيار المذكور ، ويمد يده لحكومة المالكي ، ويشارك بإيجابية كما هو قرار الكثير من الأحزاب والمنظمات الفاعلة ، وهل يؤجل على أقل تقدير تقاطعه من الأخر ، سواء كان مجلسا أعلى أو مرجعية سيستانية أو حزب فضيلة أو قوى كردية أو أحزابا إسلامية سنية وشيعية معتدلة ؟