تمييع الدور العربي ، وتسويق الدور الإيراني

ليس أقدر من حسن نصر الله على إعادة تعريب العمامة بعد أن باتت لكنة فارسية خالصة ، لكنه ليس تعريبا يسيرا أو تفصيحا سطحيا ، بل وفق تقنيات بلاغية لا يمكن الاقتراب منها إلا لمن فطن (نهج البلاغة) و(الجفر الجامع) ، وكلها مؤلفات تأخذ التقنيات البلاغية فيها صوتا حادا ، وجماهيريا فاتنا . لكنه ليس سوى تعريب سطحي لغوي ، فيما تطغى النزعة الفارسية على النيات والأفكار والأهداف .

الأداء السياسي لسماحة السيد حسن ، يقف على عدة أبعاد أبرزها ذلك المزيج بين العقدي والشعوبي والطائفي والديني ووجود أحد أبرز الموضوعات التي لا يمكن نقاشها في الثقافة العربية ، وهو موضوع العداء الإسرائيلي .

العمامة الفاتنة وخصلات الشعر التي تتبدى من تحتها وهي معجونة بعرق الحماس ، ومنديله ذو المرور السريع على جبهته ، مكملات للصورة الأخيرة للفارس المندفع في الفضاء العربي ، في القرن الحادي والعشرين حين يصبح معبود الجماهير والمهتوف باسمه رجلا يرتدي عمامة .

حالة الارتداد هذه تنطلق من ضغائن قائمة ضد التغيير والتجريب الفاشل الذي عرفته المنطقة منذ عبدالناصر ، لكن خطاب الخميس الأخير لسماحة السيد وإن كان جزءا من التبكير الشيعي في الذهاب إلى المعركة لا من أجل الانتصار بل من أجل السيطرة هو ما يحدث الآن ، والحشد الذي تشهده ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح ، من أشكال التبكير المعد باتجاه إيجاد خيط إيراني في كل مكان جاهز لتولي إدارة وتنفيذ الأجندة الإيرانية .

هذا مما لا بد أن يقال فالسيد نصر الله بات مؤثرا لا على مستواه الفردي بل على مستوى الإنتماء والذين يتظاهرون في الساحات اللبنانية لا يدركون أن الخبط اللبناني في ساسيات الحزب قد فقد كثيرا من عقده ، وأن العمائم تلون المشهد ، وحتى السويون والمراهنون على الأداء الإيراني الجديد في المنطقة ، واقعون أيضا تحت وطأة الاندهاش لهذا المناهض الجديد للغرب : إيران .

حزب الله لم يعد لبنانيا ، وأكثر ما ركز عليه نصر الله في خطبة الخميس هو أكثر ما يريد أن يسربه أو ينفي الشكوك حوله ، وكل خطب السيد التي كانت أيام الحرب إنما تأتي في سياق فعالية إعلامية ، ترى أن جملا ما وأفكارا ما أخذت تتردد في مختلف الأوساط فينبري السيد لنفيها ، والتركيز الشديد على لبنان ولبنانية الحزب ، هو نوع من السجال الإعلامي ضد فكرة بدأت تأخذ مكانها في نفوس الكثيرين .
هذا يثبت فعلا من خلال المقارنة بين الوصف السابق الذي كان يمنحه السيد نصر الله للسنيورة بأنه سيد لمقاومة السياسية ليتحول الآن إلى القائم على ما يسميه السيد بحكومة السفير الأمريكي فيلتمان , وهذه الفكرة عبارة عن مقاومة تهدف إلى تغييب الجانب الأجنبي في الحزب عن طريق مقارنته بالجانب الأجنبي في الحكومة ، والخطاب كان يمتليء بالكثير من الإشارات التي تضغط على هذه الفكرة وتحاول تركيزها في أذهان المحتشدين من أجل تشتيت الانتباه إلى الأجنبي الآخر : إيران .

في بداية الخطاب رفض للحوار ، وفي وسطه حديث عن استعداد الحزب لقبول كل مخرج ، وفي الخطاب أيضا حفز شعبي لا يختلف كثيرا عن التقنيات الخطابية لدى لينين : يا أشرف الناس ، ويا أعز الناس ويا أطهر الناس , وهي خطابية تنزع من فكرة جعل كل الذين معك ويستمعون إليك بابتهاج مستحقون لهذه الصفة ، هذه إحدى ألعاب الخطاب التي يستثمرها السيد . والتي يستطيع بيعها على المحتشدين .

لا يخرج السيد في خطابات إلا إذا شعر بانفراط ما ، أو أراد تجديد فكرة ما ، وفي خطاب الخميس دار السيد كثيرا حول تجديد حماس المعتصمين عن طريق الصراخ إلى حد تساقط العرق في مساء بيروت البارد .
موقف خطاب نصر الله من القيادات والملوك العرب ، يمثل حالة من التفاوض العلني وغير السياسي ، فإيران التي تتحرك الآن باتجاه إيجاد قبول عربي على الأقل (تحركات وزيارات أحمدي نجاد الأخيرة) لا بهدف إيجاد أي موقف مشترك بل لهدف القبول بدور إيراني يصبح فيه الحجر الرابح الإشارة إلى الحالة الأمريكية في العراق ، والدعوة المبطنة إلى عدم التحالف لأن التحالف مع الولايات المتحدة الآن ، هو ما تسعى إيران إلى تسميته بالتحالف مع الورطة ، والإحاطة بهذه الورطة والدخول الجلف على الخط لا يتم إلا من خلال تعزيز اليوميات الساخنة في العراق ، والتلويح بقشة فارسية لدمشق ، وقبل كل ذلك استثمار الابن البار في لبنان السيد حسن .
بالتأكيد أن كل ظروف المنطقة ومشاكلها المزمنة هي التي أثثت الساحة لأداء ونجوم جدد أو متجددين كهؤلاء ، وإذا كان الدور الإيراني قابل للتوسع في العراق فإن الحالة في لبنان ليست كذلك على الإطلاق ، والاعتذارات المبطنة التي كانت في ثنايا خطاب السيد حسن مساء الخميس الأخير حين يتناول الطوائف غير الشيعية المندرجة ضمن المعارضة إنما وحديثه عن الدم البناني ، ومحاولته المستميتة (لبننة) الخطاب ، ليتداخل مع حالة الاستئثار التي يطغى بها الحزب والصوت الشيعي على كل من عداه في المعارضة مسألة تمثل أبرز نقاط إرباك الدور الإيراني في لبنان ، وحتى عون وتياره يدركون جيدا أنهم ليسوا في حالة آمنة ، وبالمقابل فإن الشرق المعرّب من أدار الحزب والمتعلق بالدور السوري هو أيضا لا يمكنه الركون إلى عون وتقلباته .

إشهار نصر الله لرفضه لتدخل العرب في البنان جزء من التفكير المحوري الإيراني الساعي إلى نقل الملفات الإسلامية والشرق أوسطية التي تدار عربيا لتدار فارسيا ، لا وفق منظور طائفي فحسب ، بل وفق منظور شعبوي يرى في طائفيتيه ما لا يراه في ذات الطائفية حين يكونون من عرق آخر .
تلك ما كان يتحرك تيار محمد خاتمي لتفاديها ، وإقامة حالة تشارك في التعاطي مع مختلف القضايا ، لكن الزمن الآن مختلف جدا ، والوقت سائغ لقادة العقائد .

حسن نصر الله خير وكيل لكل ذلك المد ، لكن كل الجماهير المحتشدة إنا تأخذهم لغته العربية رغم لكنته ، لكنهم سينفضون حتما حين لا يجيدون التصفيق لأن آذانهم لا تطرب كثيرا للفارسية ، ولن يحتاج نصر الله كثيرا لكي ينتقل حديثه من ترجمات النيات الفارسية إلى العربية ليتحدث بذات صوت النيات .