quot;خيار المقاومةquot; اصطلاح يتردد تقريباً على ألسنة العرب جميعاً، معبراً عن قيمة يبدو أنها قد صارت هي العظمى، سواء لدى الجماهير أو الصفوة، من النخب المسيطرة على الساحة الإعلامية باختلاف أجنحتها، مقروءة ومسموعة ومرئية، ناهيك عن الجماعات التي تمارس ما نسميه مقاومة على أرض الواقع، سواء في فلسطين أو العراق أو كشمير والشيشان، أو باقي أنحاء المعمورة التي امتد لها quot;خيار المقاومةquot; المبجل، وهو ما يدفعنا إلى مقاربة هذا الاصطلاح، لمحاولة اكتشاف أبعاده ومحمولاته، كذا معالم البيئة التي ينتشر فيها انتشار النار في الهشيم، كما يقولون.
للوهلة الأولى يبدو الأمر وكأنه يتعلق بقرار جماعة تتعرض لنوع أو آخر من الظلم، بأن تقاوم الظلم حتى النصر على الظالمين، وهو المعنى الذي لا نعدم بروزه في الخطاب المقاوم، وان كان يتوه أغلب الوقت، بين ركام هائل من التعبيرات والتصريحات والملابسات، التي تحمِّل الاصطلاح معان أخرى، تنحرف به عن صورته البسيطة النقية، والجديرة فعلاً بالاعتبار.
وإذا كنا ممن لا ينتوون خداع أنفسهم والآخرين، بترويج ذلك التبسيط المخل والزائف لشعار quot;خيار المقاومةquot; الرائج في أيامنا، وأردنا كشف المستور من حقيقته وحقيقة ثقافتنا العروبية، فإن علينا أن نستعرض الكثير من العناصر، أولها طبيعة الممارسات التي نسميها quot;مقاومةquot;، والأفكار والشعارات التي كثيراً ما تصاحب خطابها، وصولاً إلى المناخ الذي نعيش في ظله، والذي صار أرضاً خصبة لتلك quot;المقاومةquot;.
الجانب الأعظم من ممارسات quot;المقاومةquot; هو إقناع صبي أو صبية بارتداء حزام ناسف أو قيادة سيارة مفخخة، وإرساله إلى منطقة يتزاحم بها مدنيون يمارسون حياتهم العادية اليومية، وهناك يفجر نفسه، فيتحول إلى أشلاء متناثرة، تمتزج بأشلاء الآحاد أو العشرات من ضحاياه، ويمكننا بسهولة ملاحظة مايلي:
bull;لا تترتب على هذه العمليات الانتقاص من قوة quot;الظالمquot; العسكرية ولو بقدر طفيف، يمكن أن يعطي الأمل بالتأثير الجدي فيه على المدى الطويل.
bull;تعقب هذه العمليات هجمات عسكرية مدمرة يقوم بها quot;الظالمquot;، توقع بالطرف quot;المقاومquot; خسائر فادحة.
bull;تجلب هذه العمليات علينا إدانة العالم، ورعبه من امتداداتها، بما يفقد القضية الأصلية (رفع الظلم) رصيد التعاطف العالمي، بل ويتزايد باستمرار أعداد الدول والشعوب التي ندرجها في تصنيف الأعداء، نتيجة محاربتهم quot;لمقاومتنا الحبيبةquot;.
bull;يترتب على استمرار تلك العمليات فشل أي طريق آخر (السلمي) لرفع الظلم الواقع علينا.
المشكلة الجديرة بالتأمل، أننا نعرف تماماً وبحكم الاعتياد النقاط الأربعة السابقة، يعرفها الجميع ويعاني نتائجها، أو على الأقل يشاهد مآسيها على شاشات التليفزيون، ومع ذلك quot;فخيار المقاومةquot; منتهى أمانينا وقرة أعيننا، فما هي حقيقة ذلك اللغز، الذي لا بد ويراه العالم من حولنا محيراً؟!!
المفترض أن المقاومة (المسلحة) وسيلة لتحقيق غاية هي رفع الظلم، ولو كان الأمر كذلك في أذهاننا، لكانت خبراتنا المتراكمة عن نتائج هذه الممارسات، أقنعتنا بأن وسيلتنا فاشلة، بل وبأن الهدف المفترض أنه ثمين (رفع الظلم) يتبدد، بل لنقل يتضاعف quot;الظلمquot; أضعافاً مضاعفة بناء على تلك الممارسات، بمعنى أن التشبث quot;بالوسيلةquot; يضيع علينا quot;الغايةquot;، وهذا عكس الطبيعي تماماً، حيث من المفترض أن نكون شديدي التمسك quot;بالغايةquot;، وأن نستبدل الوسائل بالسهولة التي نستبدل بها الأحذية، إذا لم تكن مناسبة لحماية أرجلنا عبر الطرق الوعرة، أليست هذه الحالة لغزاً يبحث عن حل؟!!
الحل الواحد والوحيد لما يبدو لغزاً، هو أن الوسيلة المفترضة هي في الحقيقة غاية لنا، وما الغاية إلا مجرد تعلة نتعلل بها أمام العالم، أو أمام أنفسنا إذا ما سولت لنا بعضاً من إنسانية وتحضر، أما الغاية التي هي رفع الظلم والمعاناة عن شعوبنا، فلم تعد تحتل مكاناً في اهتماماتنا، وهناك لذلك سببان محتملان:
الأول أننا قد وصلنا إلى حالة من اليأس، أفقدتنا القدرة على رؤية أو اكتشاف طرائق بديلة، تحقق لنا غايتنا، التي هي بالنسبة لنا الحياة ذاتها، وبالتالي فقد قررنا جميعاً أن نسلك طريق الموت إلى النهاية، وكأننا بتمسكنا quot;بخيار المقاومةquot; إنما نرفع شعار quot;الموت لنا ولأعدائناquot;، أو عبارة شمشون المعروفة: quot;علي وعلى أعدائي ياربquot;، وهي العبارة التي قالها -ويمكن أن يقولها- فرد قرر أن ينهي حياته، أما أن يكون هذا قرار شعوب بكاملها، فإن هذا يثير علامة استفهام ترجح الاحتمال الثاني.
الثاني هو أن ما شخصناه في المقاربة الأولى البسيطة على أنه وسيلة لتحقيق غاية، إنما هو غايتنا من الأساس، فمقاومتنا الحبيبة ليست قتالاً وإنما قتل مجرد، وشتان بين القتل والقتال، فالقتال محاولة فرض الإرادة على العدو بالعنف، الذي قد ينتهي بالقتل، أو باستسلام العدو وخضوعه لإرادتنا، وهنا أيضاً تكون ثمة غاية ووسيلة، الغاية هي فرض إرادتنا على العدو، والوسيلة هي العنف، أما القتل فإنه غاية في ذاته، وللقتال أصول وأعراف متعارف عليها منذ عرف الإنسان القتال، ولها في عصرنا مواثيق دولية، من صالح الجميع احترامها والتمسك بها، أما القتل فهو فعل مجرد، لا يعترف بقواعد أو أعراف، فهو قتل محض يقيم بحجم الإنجاز، أي عدد القتلى.
من حق كل جماعة أن تحدد أهدافها وفقاً لاحتياجاتها المادية والنفسية والثقافية، وأن تنتقي من بين خيارات عدة، الخيار الأكثر أهمية وإلحاحاً، وقد اخترنا (أو اختار الكثيرون منا) قتل الآخر، الذي قد يكون اليهود أو الكفار أو الغربيون أو الشيعة أو الأكراد أو المختلف في الرأي، المهم أن ننجز أكبر قدر من القتل والقتلى، علنا نشعر ببعض الارتياح!!
في الصراع بين طرفين، يمكن أن يحدد كل طرف أهدافه بمنهجين:
bull;منهج تحقيق أكبر مكاسب أو أقل خسائر ممكنة: ويترتب على هذا النهج ضبط نوع وحجم أعمال النزال وفترته الزمنية، وإدارة الصراع بالتكتيكات التي تعظم المكاسب وتخفض الخسائر، هذا لأن صالحنا والخير المنشود لشعوبنا هو الأساس، والصراع مجرد ممر نضطر لعبوره للوصول إلى الخير المنشود، والذي ينبغي أن يتحقق أكبر قدر منه بأقل تكلفة ممكنة.
bull;منهج إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالطرف الآخر: وفيه يغيب تحقيق صالح الجماعة من الصورة والاعتبار، ليتحدد الأمر حصراً في إلحاق الأذى بالعدو، ويترتب عليه تعظيم عمليات الصراع بأقصى قدر مستطاع، دون مراعاة لحجم الخسائر التي تلحق بنا، واستخدام كل طرق إيقاع الخسائر بالعدو، دون التفات للمشروع منها وغير المشروع، كما يترتب عليه أن يمتد الصراع بلا سقف زمني، فيصير صراعاً أبدياً، وهو ما نطلق عليه في القضية الفلسطينية: quot;صراع وجود لا صراع حدودquot;.
من الواضح بمقارنة التحليل السابق بخطاب أشاوس العروبة والتطرف الأصولي، مدعوماً بممارسات جماعات ما نسميه مقاومة، أن جل العرب قد وصلوا في أحسن الفروض إلى حالة يأس من الحياة فاختاروا الموت لأنفسهم ولأعدائهم، وفي أسوأ الفروض أن ثقافتهم ودخيلة نفوسهم قد أوصلتهم لاتخاذ القتل غاية، منتهجين نهج إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالآخر، مهما كان الثمن الذي يدفعونه، وسيدفعونه في المستقبل، من حياتهم وحياة أبنائهم وأحفادهم.
إذا كان ما استنتجناه صحيحاً، فإن من الطبيعي والحالة هذه أن تعتبر الجماهير ونخبها المناضلة كل داعية للسلام خائن وعميل وكافر، وكل من يسعى لوقف مسلسل القتل استسلامي وانبطاحي وانهزامي، وكل من يدين ذلك الجنون الجمعي عدو للأمة وخارج عليها.
والآن هل ينجح النفر القليل من دعاة السلام في شرقنا، في استنفار قطاعات ربما كانت عريضة من شعوبنا، تحب الحياة، ولم تدركها ثقافة اليأس، ولم تتملك منها شهوة القتل وسفك الدماء؟!
هل تنجح بضع شموع خافتة في بث النور في ظلمات الصحارى العربية؟!
ليس أمامنا إلا أن نحاول، وأن نستمر في المحاولة، ولو بمنطق سيزيفوس.
ليس أمامنا إلا أن نقاوم الاستسلام لليأس لألا نشابه نشامى العروبة.
فعلينا أن نحاول إتقان صناعة الحياة، كما يتقنون صناعة الموت.
وعلينا أن نرفض ترك شعلة النور، كما يرفضون ترك الخنجر والسيف والحزام الناسف.
التعليقات