تصحيح خطأ: نبهني أحد النقاد الطيبين باني أوردت خبرا عن جعفر بن أبي طالب وأنه أخذ للحسين الأمان من والي المدينة، وهو خطا، فان المقصود هو عبد الله بن جعفر، شكرا له.
إنكسار الخطاب /1
وصل الشهيد الغالي الحسين عليه السلام إلى (الثعلبية) وهي من منازل الطريق بين مكّة والكوفة، وفيها أُعلِم الحسين سلام الله عليه بمقتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، فاصيب بصدمة قوية، ورجّح له حاملا الرسالة الرجوع إلى مكة، فوثب بنو عقيل قائلين (لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا) 74 ـ الطبري 6 /322 ــ فقال الحسين (لا خير في العيش بعد هؤلاء) 75 ـ نفس المصدر والصفحة ــ وتتَّضحُ في النبرتين ظاهرة العاطفة العائلية والرَحَميِة، وهي مسالة طبيعية.
في هذه المنطقة بالذات استزاد ركب الحسين من الماء، وينقل ابن أعثم الكوفي قصصاً جميلة وحزينة عن الحسين عليه السلام، ومنها (وضع رأسه ونام، ثمّ انتبه من نومه باكياً، وذلك وقت الظهيرة، فقال له أبنه: مالك تبكي يا أبت لا أبكى لله لك عينا؟ فقال الحسين: يا بني إنّها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا، أعلمك أنّي رأيت فارسا على فرس حتى وقف عليّ، فقال: يا حسين إنّكم تسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة.
فعلمت ان أنفسنا قد نعيت إلينا، فقال أبنه: يا بني ألسنا على حق؟ قال: بلى والذي ترجع العباد أليه، ، فقال علي رضي الله عنه: إذاً لا نبالي بالموت، فقال الحسين: جزاك الله عني خيرا...) 76 ــ 3 / 70 ــ
ومنها (لمّا أصبح الحسين وإذا برجل من الكوفة يكنّى بابي هرّة الأزدي فسلّم عليه ثم قال يا ابن بنت رسول الله: ما الذي أخرجك من حرم جدِّك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الحسين: يا أبا هرّة أن بني اُمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وايم الله لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم الله ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعا، وليسلطّن الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم أمرأة منهم فحكمت في أموالهم وفي دمائهم) 77 ــ نفس المصدر 71 ــ
يبدو لي أن هذه الروايات ونظيراتها أخذها ابن أعثم الكوفي من القصص الشعبي التي كانت سائدة في ذلك الوقت عن ثورة الحسين، وهي قصص ترمي إلى تجذير المصير القدري المسبّق بطريقة مأساوية، وإلاّ أين هي مصادر الكوفي هذا؟ وقد استلها ذوو الإتجاه المماثل وثبّتوها في كتبهم، خاصّة أهل المقاتل وأربابها ذات الطابع المناقبي، مثل مقتل ابن خوارزم وغيره، ولا داعي أن يزور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحسين العزيز في تلك اللحظة ليخبره باستشهاده القريب، ففي رواية لبطة بن فرزدق ان أهل ذلك الزمان كانوا يتداولون حتمية استشهاد الحسين عليه السلام في كربلاء !وان الحسين العزيز كان يعيش هذا المعنى منذ كان صغيرا، وان جدّه تحدث بذلك وأن أباه عليا طالما وافاه بهذا الحديث العجيب، كذلك الحسن عليه السلام، بل أخبراه بالتفاصيل ! وموضوع الفئة الباغية الذي ورد على لسان أبي هرّة محاولة لدمج بسابقة تاريخية أنشطر بها الواقع إلى هُداة وبُغاة، ومن ثمّ توليف سيرة متجانسة ذات جذور أولى، والأمر لا يحتاج إلى اختلاق هذه الروايات، وإلاّ من ينكر انَّ الحسين جزء من النسيج الذي تاسّست من خلاله ظاهرة عمار بن ياسر؟ ومن ينكر انّ معاوية على سرّ أبيه غير المغالي والموهوم؟
ومن الواضح ان الحسين في رواية أبي هرة يعللّ خروجه بأسباب شخصية لا تمت بصلّة إلى موضوعة الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر! وفي رواية ان رجلاً سأل الحسين عن سبب وروده تلك الأرض الجدبة ا فاجاب الحسين (انّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة وهم قاتليْ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا الله محرما الا إنتهكوه، بعث الله اليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلّ من قوم الإمة) 78 ـ عوالم العوالم 17 ص218 والرواية مرسلة، ولم نعرف السائل، ولكن ابن سعد يوردها مسندة وسوف نناقش السند لاحقاً.
وفي بصائر الدرجات عن (ابراهيم بن أسحق، عن عبد الله بن حماد، عن صباح المزني، عن الحارث بن حضيرة، عن الحكم بن عتيبة، قال: لقي رجل الحسين بن علي عليه السلام في الثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلدان أنت؟ قال: ياآخا الكوفة، أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك اثر جبريل من دارنا، ونزوله على جدّي بالوحي، يا آخا أهل الكوفة: مستقى العلم عندنا، أفعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون) 79 ــ ص11 ح1 ـ
في السند: الحكم بن عتيبة، مذموم في كتب الرجال الشيعية فهو لا يُعتَمَد على روايته 80 ــ المعجم 6 / 172ـ وفي مُغني الذهبي (... مجهول) 81 ـ 1 /184 ــ، وفي السند: الحارث بن حضيرة، لم يُوثّق 82 المعجم 4 / 193 ــ وعند بعض علماء السنة صدوق ولكنّه يخطئ 83 ــ المغني 1 / 140 ـ كما أن كتاب بصائر الدرجات لم يصل المجلسي بطريق معتبر !
قال ابن عساكر (... أخبرنا ابو القاسم السمرقندي،أنبأنا ابو بكر الطبري، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب،،أنبأنا أبو بكر الحميدي، حدّثني سفيان، حدّثني رجل من بني اسد يُقال له بحير ـ بعد الخمسين والماءة ــ وكان من أهل الثعلبية ولم يكن في الطريق رجل أكبر منه، فقلتُ له: مثل من كنت مَنْ كنتَ حين مرّ بكم الحسين بن علي عليه السلام؟ قال: غلام. قال: فقام إليه أخ لي أكبر منّي يُقال له زهير وقال: أي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّي أراك في قلّة من الناس، فاشار الحسين علهي السلام بسوط في يده، هكذا ن فضرب حقيبه وراءه فقال: هذه مملوءة كتبا...) الرواية مجهولة بجهالة (رجل من بني اسد يقال له بحير).
انكسار الخطاب / 2
واصل الحسين بن علي مسيره حتى وصل إلى (زُبالة) وهو موضع أو منزل معروف بطريق مكّة إلى ا لكوفة، وفيها نصادف أكثر من رواية...
ففي زُبالة (وافاه رسول محمّد بن الاشعث عمر بن سعد بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره، وخذلان أهل الكوفة إياه، بعد أن بايعوه وقد كان مسلم سأل محمد بن الاشعث ذلك، فلما قرأ الكتاب استيقن صحّة الخبر، وأفظعه قتل مسلم وهاني بن عروة) 84 ــ الاخبار الطوال ص 228.
ومن هذه الرواية نفهم ان الحسين لم يكن مطمئناً إلى خبر مقتل مسلم بن عقيل، وأنه بوصول هذا الكتاب حصل له هذا الاطمئنان، ومن الغرائب أنّه في نفس الموضع (... سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل وهو لا يدري أنّه قد أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرع به إلى عبيد الله بن زياد فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب بن الكذاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيّ... فصعد ، فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس أنّي رسول الحسين بن فاطمة بن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة بن سمية الدّعي، فأمر عبيد الله بن زياد به فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض فكُسرت عظامه، وبقي به رمق، فاتاه رجل يُقال له عبد الله بن عمير اللخي فذبحه، فلما عِيْبَ ذلك عليه، قال إنّما أردت أن أريحه) 85 ــ الطبري 6 / 322 ــ
ولم يكن للحسين بد من أن يعلن هذه الحقائق لأصحابه، ففي الطبري يروي أبو مخنف (فأخرج ـ الحسين ـ للناس كتاباً فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فأنّه أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام) 86 ــ المصدر 323ــ
في زبالة بدأت لغة جديدة، لغة الانتكاسة، وفقدان الأمل، إنها صدمة (قد خذلنا شيعتنا) ــ وسوف نناقش ذلك بالتفاصيل لاحقا ــ فإنّ هذه الجملة تعبر عن مرحلتين كبيرتين، الأولى مفعمة بالأمل والقوة والبشرى، فيما الثانية تطفح بالألم والحزن وربما اليأس. وبهذا نفهم إن الخطاب الحسيني يمضي حيث مُعطيات الواقع، السابق كان سياسيّاً وذا مسؤولية شمولية، تنصبّ على تغيير الأوضاع وقلبها من الجذور، ولكن بعد خبر الخذلان تراجع الخطاب، واتخذ مساراً آخر يتّسم بالمأساوية والقلق، وكل ذلك يؤكّد على خضوع الحركة لسنن العمل وفق الممكنات الجاهزة والموجودة.
وينقل الطبري إن الناس في هذا الموضع وبعد إن أذاع خبر مقتل مسلم تفرّقوا عنه، ولم يصطحبه (إلاّ من يريد مواساته والموت معه) 87 ــ 6 / 3323 ــ ولكن لماذا لم يخبر الحسين هؤلاء بالأمر الو اقع منذ لحظات الالتحاق؟ وأين كانوا من خبر الفرزدق وغيره؟ فهم لم يتفرّقوا إلاّ بعد أن أعلمهم بمقتل مسلم وعبد الله بن يقطر... إنّ كل هذه الملاحظات ترجّح الرأي القائل بان الحسين أقدم على عملية خاضعة لحسابات النجاح والفشل، وليس هناك ثبت مؤكّد لنتيجة محدَّدة من قبل، وإلاّ لِمَ كل هذه المفارقات؟
يتبع بإذن الله تبارك وتعالى.
التعليقات