خطاب من نوع جديد
وفي منطقة (ذي الحسم) يلتقي الحسين الحرّ بن يزيد الرياحي وألف فارس جاءوا لاستقدامه إلى عبيد الله بن زياد، فيخطب بهم (... أيها الناس: أنها معذرة إلى الله عزّ وجل وإليكم، إنّي لم أتيكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رُسُلكم، أن أقدم علينا، فأنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإنْ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين،أنصرف عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم...) 93 ـ الطبري 6 / 307 ـ
لم يجبه أحد كما تقول الرواية، وقام الجميع للصلاة، والتدبر بالخطاب يكشف عن إيمان الحسين باقامة المجتمع المسلم بقيادته، ولكن في نطاق الرضا من الجماعة، وإلاّ ينصرف راجعاً الى مكّة، وهذا اللحن من الخطاب لا ينسجم باي شكل من الاشكال مع الايمان بالمصير المحدَّد سلفا، ويتفق مع منطق الحفاظ على الحياة والذات والوجود، ويتناقض مع فكرة المغامرة.
يروي الطبري أن الحسين بعد صلاة العصر خطب (... ايها الناس: فانّكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن اهلّ البيت أولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، السائرين لكم بالجور والعدوان، وإن كنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كبتكم وقدمت به عليّ رُسُلكم انصرفت عنكم...) 94 ـــ 6 / 327 ــ
خطاب الحسين هنا،اي بعيد صلاة العصر ينطوي على توكيد الهدف الكبير، اي تأسيس النظام الجديد بإمامته، وإذا كان الحسين في البداية قد اشار الى ذلك على أ ساس الرضا من الجماعة، فإنّه هنا يشير الى أولوليته بذلك باعتبار الإيمان بالذات وقيمتها وموقعها من الاسلام، ولكن الحسين حافظ على نيّة السلامة، وثبّت الرغبة في حقن الدماء. ويمكن الجمع بين الاتجاهين، فهو يعتقد بنفسه ولكن لا يمضي حكومته الاّ بالرضا من الجماعة.
يروي الطبري أن الحر اجاب بانّه يجهل أمر هذه الكتب، فلّما أبرزها الحسين قال الحر ( فإنّأ لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك الاّ نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد) 95 ــ 6 / 327 ــ
فاجابه الحسين ( الموت أدعى لك من ذلك) 96 ــ نفس المصدر والصفحة ــ وفيما اصرّ الحر على استقدامه قال له (أذن والله لا اتبعك) 96 ــ نفس المصدر ــ
خطبة مشهورة ولكن فيها نظر
مضى الحسين والحرّ يسايره حتى وصل (البيضة) موقع بين العذيب وواقصة، وفيها خطب الحسين قائلا (أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منْ رأي منكم سلطاناً جائراً مُستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعمل في عباد الله في الأثم والعدوان، فلم يغيروا عليه بفعل ولا قول، كان حقاّ على الله ان يدخله مدخله،، ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، وأستاثروا بالفيئ، واحلوا حرام الله وحرّموا حلال الله، وأنا أحقّ من غير، وقد اتتني كتبكم، وقدمت عليّ رُسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فيّ أسوة حسنة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم نُكر، لقد فعلتموها بابي واخي وأبن عمي مسلم، والمغرور من أغتّر بكم، فخطأكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنّنا ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) 97 ــ المصدر ص328 ــ
هذه الخطبة يرويها الطبري بقوله: قال ابو مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار، وعقبة هذا وإنْ وثّقه أحمد حنبل والقطّان 98 ــ الجرح والتعديل 6 / 315 ــ ولكن نقطة الضعف في هذه الرواية هو الإرسال، لانّه متأخر، وكان يروي عن الشعبي وأبراهيم النخعي، فهو لم يحضر الواقعة، هذا من جهة ومن جهة اخرى فإن أبن أعثم يورد الخطاب على شكل رسالة بعث بها الحسين الى اهل الكوفة بيد قيس بن مسهر الصيداوي 99 ـ المصدر 5 / 81 ــ فما أكبر وافضح التناقض! مع العلم ان رسالة الحسين المذكورة أوردها الطبري وغيره بمضون آخر، وإنّها كانت من (الحاجز من بطن الرمّة)، ردّاً على كتاب مسلم بن عقيل الذي يدعوه فيه الى القدوم! وفي الحقيقة يمكن ان يجتذب فضاء القبول الشطر المتقدم من الرواية المذكرورة، بسب أو أسباب التماهي الواضح بين المضمون من جهة وأفرازات المرحلة في اللحظة التي فيها الكلام، إذ من المناسب أن يعمد الحسين على أستثارة ذكريات العقيدة في الضمائر الغافلة، أمّأ الشطر الأخر فهويشيِّد نظرية أزلية في مجتمع او عن مجتمع،كما أنّه يؤدي الى إرتباك في وعي الحسين، فيما وهو الانسان الذي تجوهر الوعي في رؤيته للاحداث والوقائع ومن ثمّ التاريخ، إذ لم يكن بعيداً عن أجواء الجمل، وصفين، والنهروان، ومحنة الصلح، ومسلسل الدماء في بحر عشرين سنة عسيرة صعبة، ومن غير المعقول ان تكون هذه المرحة برمّتها عاجزة عن إملاء المخيال الحسيني بالحقيقة لتبرز بشكل مفاجئ على اثر صوت لم يستوعب الحسين بعد كلَّ تفاصيله وكل خطوطه... فمن المظنون القوي انّ هذا الشطر من إضافات الرواة والاخباريين، فيم إ ذا سلمنا بصحة الرواية من حيث الاساس.
والراوي نفسه، اي عقبة بن أبي العيزار يروي ان الحسين خطب في (ذي الحسم) وقال (أنّه قد نزل من الامر ما قد ترون، وأن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وادبر معروفها، واستمرئت جداً، فلم يبق منها الاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمَل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت الاّ شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برما) 100 ــ الطبري 6 / 229 ــ وعيب الرواية الإرسال، وقد روى ذلك أيضاً الزبير بن بكار عن محمّد بن الحسن، كما جاء في معجم الطبراني برقم ( 2844)، وفي حلية الاولياء ج2 / 39، وفي مجمع الزوائد للهيثمي 9 /133، مع اختلاف في اللفظ، وفي السند محمّد بن الحسن بن زبالة المخزومي المدني، كذّاب، متفق على تركه، فضلاً عن أنّه لم يحضر الواقعة،أذ مات قبل المائتين 101 ــ مغني الذهبي 2 / 568 ــ وللعلم ليس لعقبة بن العيازري الا ّ هاتان الروايتان المرسلتان المحفوفتان بالشبهات والمفارقات، والابتعاد عن مثل هذه الاخبار موقف سليم عند كتابة التاريخ.
يروي الطبري عن أبي مخنف عن الطرماح بن عدي، من أنّه لقي الحسين بن علي في هذه الظروف واعلمه بان اهل الكوفة اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرّحون إليه، وقد نصحه بان يلجا الى جبل ومن هناك يجمع له الرجال من طي وسلمى وغيرهما (فوالله لا ياتي عليك عشرة ايام حتى تأتيك طي رجالاً وركبانا، ثمَّ أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين الفا) 102 ــ الطبري 6 /332 ــ ولكن الحسين رفض هذا العرض الكبير ( فقال له ــ اي الحسين ــ أنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الامور) 103 ـ نفس المصدر والصفحة ــ
تُرى هل من المعقول ان يترك الحسين مثل هذه الفرصة الثمينة ؟ وهل هذا الموقف يشكل علامة وعي الثورة أو النهضة أو حتى الحرب من أجل الحرب ؟ وهل هناك اهم من تجميع ممكنات النصر في مجال القتال والحرب ؟ أم انّ الحسين أدرك انّها فرصة ميّتة بسبب وجود الحر بفرسانه الالف ؟ وإذا أردنا قبول الرواية فلابد أن نطرد أي إحتمال يعكس اهمالاً لفرص الفوز أو تاخير الخسارة أو النجاة، ومنطق رفض الاقتراح الذي تقدّم به الحسين لا يرقى الى ايِّ قيمة من قيم الاستقامة على طريق المهمّة التي جاء من اجلها، ولا يتماهى مع أي تقدير لحسابات إنتصار الحق الذي يؤمن به، وماذا ينتظر وقد أُعلم بقتل مسلم وعبد الله بن يقطر والصيداوي، وهؤلاء هم جنود عبيد الله بن زياد تحيط به وآخرون ينتظرون قدومه ؟ على أنّ الرواية تتضمن مدحاً وتقديراً للطرماح اي الرواي نفسه.
التعليقات