تتدافع علي المسرح الجيوسياسي منذ الحرب الاخيرة علي العراق طائفة من المفاهيم التي لا نملك حيالها، من فرط جاذبيتها وتماسك منطقها، ترف الرفض أو القبول، ولا يصلح الالتفاف حولها عبر حيل البلاغة التقليدية، أوحتي غض الطرف بشأنها في عصر يهمل ولا يمهل من لا يتعامل بجدية مع مفرداته، ناهيك عن ان مواقفنا منها واسلوب تعاملنا معها تتوقف عليه قرارات مصيرية تخص المستقبل..
من هذه المفاهيم، المصالحة والتسامح والاعتراف والاعتذار والعفو والصفح والاصلاح والتعددية وحقوق الانسان والديمقراطية........ الي آخر هذه المنظومة من الكلمات المفاتيح التي باتت تشكل اللغة الكونية للاخلاق والقانون والسياسة في عالمنا المعولم. ومن يتابع الاحداث عبر الميديا سيدهش من مشهد الاعتراف والاعتذار والصفح العام مثلا، الذي يشمل الافراد والطوائف والمؤسسات الدينية فضلا عن ملوك ورؤساء الدول، من اليابان والصين وكوريا الي المانيا والارجنتين والفاتيكان. وسيكتشفببساطة ان مفردات مثل حقوق الانسان والتعددية والاصلاح هي الخلفية غير المنظورة التي تنتصب عليها مشاهد العنف والارهاب والمظاهرات والاحتجاجات الشعبية في مناطق كثيرة من العالم.
المشكلة بالقطع ليست في هذه المفردات أو المفاهيم الجديدة القديمة، التي تنتمي للتقليد الديني السياسي للانسانية، ولا حتي في فهمنا لدلالاتها المتجددة ومدي صحة ذلك أو خطأه، وانما في أسلوب تعاملنا معها بالاساس. فقد حلت مجموعة ثورات معرفية ومنهجية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي طالت مجمل العلوم الانسانية بشكل عام والفلسفة بصفة خاصة، التي تمثل التيار الجوفي للسياسة في عالم اليوم، وأصبحت تتجه اكثر فاكثر الي البحث في اليومي والمعتاد، وتعيد النظر في هوامشها المهملة ومعانيها المنسية، علها تجد مخرجا جديدا لهذه الازمة المركبة.
ففي كتابه quot;ما الفلسفةquot; عرف جيل دولوز الفلسفة بأنها quot;صداقة المفهومquot; ناقضا التعريف التقليدي quot;حب الحكمةquot;. ورغم ان لفظة philia الاغريقية تعني الحب والصداقة معا فان الفارق بينهما كبير، فالصداقة تسمح بمسافة مناسبة تمكننا من رؤية الامور علي حقيقتها لا الذوبان والاستغراق فيها أو الانفصال و الانعزال عنها..و هذه النقلة من quot;الحبquot; الي quot;الصداقةquot; ومن quot;الحكمةquot;
الي quot;المفهومquot; هي جوهر كل فعل نقدي والمحرك لكل نقد اليوم، ولم يعد ينظر الي المفاهيم من منظور quot;معquot; أو quot;ضدquot;، الحب والكره، التوله والعداء، الانصياع والرفض. هذا من ناحية، من ناحية أخرى فقد انتفت صفة القداسة عن الكلمات لانها لم تعد quot;حكمةquot;، ولا يوجد مفهوم مطروحا للتداول والنقاش علي الساحة لايطاله النقد أو غير قابل للنقد.
وعلي سبيل المثال فاننا جميعا مؤمنون بالتعددية وبالتنوع والاختلاف، ونسر كثيرا عند سماعها أكثر من الاحادية والشمولية والتماثل، لكن المسالة ليست هذه الكلمات ذاتها وانما quot; عبادتها quot;. وكما لاحظ رسل جاكوبي فانها اصبحت كلمات quot;مقدسةquot; أو أريد لها ذلك، ومن يرفضها فسيحرق علي خازوق تمامامثلما احرق جيوردانو برونو. لم يسأل أحد أو يسائل نفسه : ماقدر التعدد والاختلاف داخل التعددية أو التنوع؟ ماذا تعني كلمات مثل quot;تعددquot; وquot;تنوعquot; وquot;أختلافquot; أساسا؟
علي عكس ما هو شائع، تكشف quot;صداقة المفاهيمquot; أن الامور تمضي من دون توقف نحو quot;التماثلquot; لا التعدد والاختلاف، وهنا مكمن المفارقة، وان شئت المراوغة، فهي تقر وتعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع، ولكن من أجل الغائه ودمجه في quot;وحدةquot; هي quot;وحدة معنيquot; أو quot;هوية مبنيquot;. وكشف جاك دريدا في مقالته quot;سير ذاتيةquot; التي كانت في الاصل محاضرة القاها في مؤتمر عقد بمناسبة الذكري المئوية الثانية لاعلان الاستقلال الامريكي في جامعة فرجينيا، ان كل أدعاءات الديمقراطية الليبرالية الامريكية لا تخرج عن ذلك.
فقد تسائل دريدا عن: الوضع الشرعي لوثيقة الاستقلال التي أنبثقت بموجبها كينونة سياسية وقومية جديدة هي الولايات المتحدة الامريكية، كما تساءل عن الموقعين علي هذه الوثيقة الخطرة؟ وعلي نحو أكثر دقة: ما الذي أمد توقيعاتهم بسلطة، حيث من المفترض أن المصدر الدستوري الوحيد لهذه السلطة كان quot;هم أنفسهمquot;، الذين كانوا قيد التخلق بصفتهم موقعي الوثيقة؟
هذا السؤال يؤدي الي سؤال أبعد هو: كيف نشأت الديموقراطية النيابية، بما أن هؤلاء الذين لعبوا دورا في لحظتها التدشينية لم يفوضهم، علي نحو حاسم وواضح، أي جهاز قائم من القوانين أو الاجراءات.
لقد كان لابد لهذه الوثيقة أو لهذا الاعلان من شاهد حاسم ذي شرعية، والشاهد في حال أمريكا هو quot;اللهquot; قاضي القضاة الاعلي، الضامن المطلق لـquot;صحة مقاصدناquot;. هذا اللجوء الي quot;مدلول متعال quot; وقوة تضمن هذه التوقيعات وتمنحها قوة الكلمة المزودة بسلطة، تعفي الوثيقة من تقلبات الملابسات التاريخية، وتحفظها علي مر العصور، كما أن سرية الاصول تستبعد أسئلة الشرعية، أوقل ان سرية الاصول جعلت من هذه الوثيقة شيئا آخر أبعد من مجرد تسجيل لاحداث زمن معين، فقد أصبح ما فعله الموقعون جزءا من القضاء والقدر القومي الذي يديره رمز غرضه أن يطيعه الموقعون علي نحو مطلق.
الاهم من ذلك أن دريدا في كتابه quot;سياسات الصداقةquot; كما في كتابه quot;مارقونquot; حذر من الديمقراطية القادمة، ودعا الي نبذ منطق الأخ والشبيه. يقول quot;لا خطر علي الديمقراطية القادمة الا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود دكتاتورية سياسية بأسم الأخوةquot;. وهو ماأكده مرارا من أن الدعوة الي الأخوة اليوم تلغي الغيرية وكل حق في الاختلاف.

* أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس