كثيرة هي المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل والتخلف، لكنها قليلة جدا المجتمعات التي تعصف بها أمراض التعصب والبغضاء والتمييز ضد الآخر. وغالبا ما يكون الجهل سببا للتعصب والعداوة والكراهية. فالإنسان عدو ما يجهل. إنما في حالتنا هذه فإن التعصب سبب جهلنا وتخلفنا.
قليلة أيضا- ونحن منها- المجتمعات التي ما زالت تميز بين المرأة والرجل، وتعامل الإنسان على أساس جنسه أو دينه أو عرقه أو قوميته أو فكره. مما يدفع الناس من مختلف الأجناس والملل والنحل، إلى الهروب- وكثيرا ما يدفعون حياتهم ثمنا لهذا الهروب- نحو بلاد الغرب لينالوا الجنسية بعد أعوام قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ويتمتعوا بحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، والمساواة التامة مع السكان الأصليين في ظل القوانين والتشريعات السائدة.
إن المجتمع الذي يهضم حقوق شرائح واسعة من مواطنيه، ويقيد حريتهم، ويهمشهم، ويضطهدهم، ولا يعاملهم كمواطنين كاملي الحقوق، متساوين مع غيرهم، وإنما كرعايا من الدرجة الرابعة، مستغلا جهودهم وعرقهم وعقولهم، أنما هو مجتمع أعرج، بل بساق واحدة، راقد في مكانه، لا يقوى على النهوض، ولا يقوى على المسير والتقدم.
والمجتمع الذي يرفض التعدد والتنوع والتمايز، ويسعى كي يجعل من أبنائه نسخا متكررة متطابقة، ذات لون واحد، ونمط واحد، وفكر واحد، يرون بمنظار واحد، وينطقون بلسان واحد، هو مجتمع معاق، مخالف لطبيعة الأشياء، غير قادر على الاجتهاد والإبداع والابتكار. فلو أراد الله أن يخلق الناس نسخا متطابقة عن بعضهم بعضا لفعل، لكنه أراد التنوع والتمايز، لأنهما سر وقوة الخلق والتطور، ولهذا لن تتبدل حالنا، وستبقى على ما هي عليه من جهل وخرافة وتخلف، حتى نبدل ما في عقولنا ونفوسنا وسلوكنا.
المرأة
المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية، ولأن المرأة التي هي من أهم (لأنها المربية) وأكبر شرائح المجتمع، مختلفة بالجنس، فإن الرجل سيد مجتمعاتنا يقهرها ويقمعها، ويقيد حريتها، ويسلبها حقوقها، ويحبسها بين أربعة جدران، وفي كيس أسود محكم الإغلاق. يحرمها من التعليم إلا في اختصاصات محددة، ويحرمها من العمل إلا في مجالات وأماكن قليلة معينة. فأولادها الذين حملتهم في بطنها وولدتهم من رحمها ليسوا ملكها، بل ملك زوجها. حتى أحلامها وجمالها وجسدها ليسوا ملكها. مهمتها في الحياة وواجبها خدمة الرجل وإسعاده. وإن لم تفعل أو قصرت في هذا (الواجب) فهي نشاز ينبغي بقوة القانون والمجتمع معاقبتها وضربها وتأديبها. فهل يستدعي الاختلاف في الجنس كل هذا العداء والاضطهاد لها؟ أليس هذا الاختلاف من طبيعة الأشياء، وضروري، ومطلوب للحفاظ على الجنس البشري؟ بماذا يتميز الرجل عنها؟ أهو أكثر منها صبرا على ضنك الحياة؟ أم أرجح عقلا وقد بزته في العلم والجامعات؟ أم أقوم خلقا وأفضل سلوكا، ونسبة الرجال الذين يتعاطون المخدرات والمحرمات ويرتكبون الجرائم والموبقات أضعاف نسبة النساء على الصعيد المحلي والعالمي؟ أم أنه أحسن معاملة لذويه وأهله، يبرهم ويقوم على خدمتهم ورعايتهم في كبرهم خير منها؟
لماذا لا يستطيع هذا المجتمع أن يفهم أن المرأة الذليلة ستربي (أبناءه) على الذل. والمرأة المستعبدة المضطهدة ستربي (أبناءه) على العبودية. والمرأة الجاهلة لن تعطي (أبناءه) سوى الجهل والتخلف. والمرأة الخائفة على مستقبلها من زوجها ومجتمعها لن تعلم (أبناءه) سوى الخوف. بينما المرأة الحرة المتعلمة ستغرس في أبنائها حب العلم، وروح الإبداع. والمرأة المنتجة المسؤولة ستعلم أبنائها حب العمل والإنتاج، ومعنى المسؤولية والقدرة على تحملها.
الأقباط
ومن الآخر المهمش أيضا الأقباط، والذين يمكن أن نرمز بهم لكل ذوي الفكر والعقائد والقوميات المختلفة عن الفكر والعقيدة والقومية السائدة. وبهذا المفهوم أشمل كل ما يسمى بلغة البعض: الأقليات. والتي يشكل الأقباط أحدى صورها، وأكبر شرائحها (الأقليات) المتواجدة في بلد واحد.
لماذا يعطي بعض الناس لأنفسهم الحق في تهميش (الأقليات) واحتقارهم واضطهادهم؟ لماذا يحرمونهم من حقوقهم، ويسرقون أحلامهم وآمالهم، ويستبيحون أموالهم وجهودهم، وأحيانا نساءهم ودمائهم؟ كيف يمكن لهؤلاء أن يطالبوا بحقوق الإنسان، في الوقت الذي يمنعونها على غيرهم؟
لماذا تُهمش هذه الأقليات، ويُحرض عليها، وهم أبناء هذه البلاد، نشأوا على أرضها أبا عن جد، واستصلحوا أراضيها، وشذبوا أحجارها، وبنوا عماراتها؟ ما هي الميزة التي يتمتع بها هؤلاء المتعصبون ولا يتمتع بها أبناء الأقليات؟ وفيهم من هم أكثر أمانة ووفاء من هؤلاء المتعصبين، وأكثر صدقا في القول وإخلاصا في العمل، وفيهم أيضا من هم أكثر مخافة ومحبة لله من هؤلاء، وأكثر محبة وفعلا للخير، وأكثر كرها للشر وابتعادا عنه.
ما هي المواهب والقدرات التي يمتلكها هؤلاء الكارهون المحرضون، ولا يمتلكها المهمشون؟ لماذا يرون أنفسهم أهم، وحياتهم أغلى، وأولادهم أفضل؟ وقد حاربت هذه الأقليات الجهل أكثر منهم، وحاربت التخلف أكثر منهم. ودعت للمحبة والتسامح والتعاون والتعاضد في الوقت الذي كانوا يدعون فيه للكراهية والبغضاء. لماذا يظن هؤلاء المتعصبون أنهم أحق بالحياة، وأن الله معهم ضد غيرهم؟ ما هي الأفضلية التي تؤهلهم لذلك؟ هل هم متحضرون، متعلمون، وأولئك جهلة، متخلفون؟ أم أنهم أكثر تحضرا وعلما؟ لماذا يمنعونهم من ممارسة شعائرهم الدينية، وتأدية صلواتهم علنا، وبناء معابدهم من أموالهم الخاصة لا من أموال الضرائب التي يساهمون فيها وتخصص لغيرهم؟ ماذا يضير لو صلوا وتعبدوا ربهم؟ هل تعترض صلواتهم صلوات هؤلاء المتعصبين، وتمنع وصولها إلى رب العرش؟ ماذا لو تحدثوا بلغتهم وعلموها لأبنائهم؟ ما هي الجريمة التي يرتكبونها إذ ذاك؟ لماذا يجعل هؤلاء المتعصبون السيف بينهم وبين المختلفين عنهم، ولا يجعلون الود والتسامح والتعاون سبيلا؟ أليسوا أبناء هذه البلاد الأصليين؟ أم أنهم استوطنوا هذه الأرض بعد أن نهبوا خيراتها وأموالها وقتلوا سكانها؟
إن الوطن لجميع أبنائه، رجالا ونساء ومن مختلف العقائد والأعراق. ولا يمكن لهذه المجتمعات أن تخرج من جهلها وتخلفها وتلتحق بركب الحضارة العالمية ما لم تتخل عن نظرتها الدونية للآخر، وما لم يتعامل الجميع على قدم المساواة، ويتعاونون يدا بيد، لأن مشاعر التعصب والبغضاء والكراهية لم تخلف على مدى قرون وقرون سوى الجهل والتخلف والحروب والمنازعات، ولم تنشر سوى الخوف والفقر والفساد.
[email protected]
التعليقات