كنت أعتقد واهماً أن زوال النظام الدكتاتوري في العراق سيتيح للمثقفين العراقيين، أدباءً ومفكرين وأكاديميين وفنانين وإعلاميين، فرصةً تاريخيةً لأن يسهموا إسهاماً فعالاً في بلورة خطاب وطني سياسي وحضاري يستجيب للتحديات التي يواجهها بلدهم، ويكونون في طليعة الفئات والشرائح الاجتماعية المؤثرة في صياغة المشروع الديمقراطي وعملية التحرر والبناء، وإزاحة التيارات الظلامية الطارئة على المجتمع العراقي، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث على الإطلاق، بل بالعكس أثبت ثلاثة أعوام على سقوط النظام الدكتاتوري أن المثقفين العراقيين قد واجهوا اقصاءً وتهميشاً على يد السياسيين وزعماء الأحزاب المتنفذة، وأصبحت حياة قسم منهم، وخاصة الأكاديميين والإعلاميين، مهددة، وجرت تصفية العشرات منهم بدم بارد في مواقع عملهم أو أمام بيوتهم على يد عصابات ارهابية وتكفيريين ومرضى التطرف الطائفي.

لقد ظهرت في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية تيارات وحركات وأصوات سياسية ذات توجهات ظلامية وطائفية وعرقية عجيبة وغريبة اعتمد بعضها في تحقيق أهدافه علي العنف والإرهاب، ولجأ بعضها الآخر الي الترهيب والتهديد، وسلك قسم منها سلوكاً عنصرياً وغوغائياً. وكان القاسم المشترك بينها هو تغييب الانتماء الوطني والحس الديمقراطي والحضاري، وإشاعة الفوضى، وقطع الطريق أمام محاولات الخروج من المحنة، وإعادة البناء، وإجراء التغيير. ومن الطبيعي كانت ثمة، الى جانب هذه التيارات والحركات، الأحزاب والتكتلات السياسية والعناصر المستقلة الوطنية الليبرالية واليسارية المعروفة التي كانت تعارض النظام السابق وتعمل على إسقاطه. وعلى الرغم من انتماء بعض المثقفين إلي هذه الأحزاب والتكتلات، فإن حضورهم فيها كان ولا يزال ضعيفاً جداً، ربما اقتصر على إدارة نشاطاتها الإعلامية فقط. وقد يعزو بعضهم غياب المثقفين العراقيين عن أداء دور سياسي مؤثر في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها العراق الي أن قسماً كبيراً منهم كان مرتبطاً بالنظام السابق من خلال العمل في مؤسساته الاعلامية والثقافية والأكاديمية، اومنفذاً لمشاريعه وبرامجه الدعائية، أو ملمعاً لصورته البشعة، ومن ثم فإنهم شريحة غير نزيهة، ولا يحق لها أن يكون لها دور طليعي في المخاض السياسي الذي يعيشه العراق. ولكن في هذه الحجة إجحاف بحق عدد كبير من المثقفين العراقيين، ذلك أن الجميع يعرفون طبيعة النظام الدكتاتوري السابق، فقد حول شرائح المجتمع كلها، وفي مقدمتها الشريحة المثقفة الي رهائن، ومارس معها أبشع أساليب الترهيب والترغيب لربطها بعجلته الجهنمية، فمن كان يجرؤ علي التملص من تنفيذ أمر من أوامره أو مشروع من مشاريعه؟ ولم يكن أمام من يريد التحرر أو الإفلات من قبضته إلاّ الفرار الي الخارج. بيد أن هذا الخيار كان صعباً لقسم كبير من المثقفين، فظروفهم القاهرة لم تكن تسمح لهم بالمغادرة، وأوضاع العراقيين السيئة في المنافي لم تكن تشجع علي ذلك، ثم هل كان من المعقول أن يهرب المثقفون كلهم الي الخارج؟

إن الأدباء والفنانين والمفكرين والأكاديميين هم أكثر الشرائح الاجتماعية تعلقاً بالحرية والقيم اليمقراطية كونهم يشتغلون في حقل إنساني يقوم أساساً على الاجتهاد والاختلاف وحرية الفكر والموقف، ولا يدرك هذه الطبيعة فيهم إلاّ من كان من صنفهم أو لصيقاً بهم، وإذا كانت القوة الغاشمة وسياسة القمع والاستبداد التي مارسها النظام السابق قد أرغمتهم على إنجاز أو أداء أعمال منافية لطبيعتهم، أو السكوت عن الظلم والقهر، فإن ذلك لا يعطي الحق لأحد بأن يقصيهم عن المشهد السياسي، أو يهمشهم، وهو ما يحصل الآن بشكل مقصود ومتعمد من قبل أغلب الأحزاب المتنفذة، ويحول دون أدائهم لدورهم في صياغة الخيار الوطني في هذه المرحلة الخطيرة التي تعج بالمجموعات الارهابية والتيارات الظلامية والتكفيرية والانتهازية والعميلة التي تسفك دماء العراقيين، وتعمل على تخريب البلد وإشاعة اليأس في نفوس أبنائه، وتدفع قسماً منهم إلى الترحم، للأسف، على النظام السابق الذي لم يكن الأمن، في الأقل، مفقوداً خلال حكمه، ولم يكن باستطاعة أحد أن يتجرأ على التصريح بطائفيته وظلاميته، أو يهمس بنواياه التي تمس الوحدة الوطنية، أو تتعارض مع الرؤية الحضارية والانفتاح الاجتماعي الذي يعيشه العراقيون منذ عدة عقود.

لقد أدي المثقفون العراقيون دوراً طليعياً في النضال الوطني والتحرري في جميع الحقب السياسية التي شهدها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينات من القرن الماضي، كما نبذوا التزمت الديني والإكراه والطائفية ، ودعوا الى التسامح منطلقين من جوهر الدين نفسه والقيم الإنسانية النبيلة والمشرقة، وإلى احترام العقل والاختلاف والتنوع والاجتهاد في الرأي. وعلى الرغم من قسوة النظام السابق ووحشيته خلال العقود الثلاثة الماضية، فإن عشرات المثقفين وقفوا ضده، فتعرظ قسم منهم الي المطاردة أوالسجن أوالقتل، واضطر القسم الآخر الي مغادرة الوطن، وتحمل مصاعب المنفى والاغتراب والابتعاد عن الأهل، ومواصلة النضال ضد النظام الفاشي، وفضحه من خلال النشاطات الإعلامية والأعمال الإبداعية والمؤتمرات واللقاءات والتجمعات السياسية والثقافية. ومع انتهاء

حرب الخليج الثانية، وما لحق بالعراق من كارثة شاملة، اتسعت نشاطات المثقفين العراقيين في مواجهة النظام، فأصدروا العديد من الكتب (السياسية والأدبية) التي تكشف عن جرائمه وحماقاته وانتهاكاته لحقوق الإنسان. ثم تلى ذلك ظهور عدد من الصحف والمجلات والمواقع الاكترونية التي استقطبت عشرات المثقفين العراقيين المعارضين من شتى دول العالم المقيمين فيها، إضافة الي تأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين العراقيين. وكان أغلب الأدباء والكتاب في الداخل يكنون الاحترام لتلك النشاطات والمنابر الثقافية والإعلامية، بل أن بعضهم كان يسهم فيها باسم مستعار، او باسمه الحقيقي، علي الرغم من تعرضه للمساءلة والاستجواب. وبإزاء ذلك فإن الوازع الوطني والأخلاقي يحتم على الأحزاب الوطنية أن تراجع نهجها في التعامل مع المثقفين والأكاديميين، وكذلك ما يسمون بالتكنوقراط، وتفسح لهم المجال في إدارة العمل السياسي ومؤسسات الدولة بدلاً من أن يديرها جهلة وأميون وفاسدون، لأن الدور المطلوب منهم الآن في هذه المرحلة الخطيرة، هو أهم بكثير من دورهم السابق. وفي المقابل لا يجوز أن يظل هؤلاء المثقفون مكتوفي الأيدي، أو مرتبكين وهم يرون كل من هب ودب يتسيد الموقف، أويطرح بصوت عال مشاريع مدمرة لمستقبل البلد. كما لا يحق لأي جهة سياسية أو دينية أن تصادر دورهم، في حين يتسع نفوذ شرائح وقوى وفئات سياسية واجتماعية أخرى أغلبها غير متنور، ولا وزن ولا تاريخ له، بل سلفي وأصولي معاد للحريات الاجتماعية واليمقراطية وروح العصر الحديث، ويريد أن يفرض على العراقيين شكلاً محدداً للنظام أو للدولة ذا آفاق كارثية.

قد آن الآوان لأن يثبت المثقفون العراقيون أنهم مثقفون عضويون من خلال جمع قواهم تحت أي مسمي، وإعلان موقفهم مما يجري في العراق، بمعزل عن أي انتماء غير الانتماء الوطني، وتقديم رؤيتهم لمستقبله السياسي وهويته التعددية التي تقوم علي مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحكم القانون وصيانة الحريات العامة والخاصة، لأن الحركات والأحزاب قد تخطئ، ولكن على المثقف أن يرفع صوته عالياً بوجه هذا الخطأ، كما يقول لوكاش، وإلاّ فإنهم سيظلون خارج المشهد، شريحةً مهمشةً عاجزةً عن التأثير، ولا قدرة لها على مواجهة نزوات السياسيين، ومحاصصاتهم، وإكراهات الظلاميين، وتخريب المخربين.

[email protected]