اعتقال أحمد سعدات، بعد يوم طويل من الحصار، هو انتكاسة جديدة في مسيرة لا تشكو من الانتكاسات. إن إسرائيل تصب الزيت على النار، في حمى انتخاباتها القادمة. ولا يعني ساستها الآن، سوى تحقيق أكبر قدر من مكاسبهم وانتصاراتهم، على حساب مزيد من تعقيد الأوضاع. حتى لو تطلّب ذلك، الذهاب بالمنطقة إلى الجحيم.
والحق أن ملف الأمين العام للجبهة الشعبية، كان من الممكن علاجه، بأضرار أقلّ كثيراً، فيما لو عولج فلسطينياً من قبل. فقد كان بإمكان ياسر عرفات، إطلاق سراحه، لكنه تلكأ على أمل واهم، ثم واصلت السلطة، نفس النهج، بعد موت عرفات. مدعية بأنها لا تستطيع حمايته، ولا تضمن أمنه، وهو مطلق السراح. وقد نسيت هذه السلطة، أن الرجل، كان مطارداً ومطلوباً لإسرائيل وأجهزتها المخابراتية، منذ خمسة عشر عاماً كاملة، ومع ذلك، استطاع تدبير أموره، ولم يقع تحت يدها.
وقد أرسلت إسرائيل، في الشهور الأخيرة، عدة إشارات، فحواها أنها في وارد اعتقال أو اغتيال سعدات، لكنّ أحداً لم يسمع، وأحداً لم ينتبه. فالكل مشغول بحساباته الخاصة، والسلطة، تهلهلت، ولم تعد قادرة على إدارة أية أزمة أو معضلة، مهما صغُرت، بدءاً بملف الفلتان الأمني، مروراً بملف البطالة، وليس انتهاءاً بملف الأسعار وغلائها المتسارع الفاحش.
لقد صرح جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني، قبل لحظات، بأن بريطانيا أخبرت السلطة، عن نيتها في سحب عناصرها من سجن أريحا، لعدم ضمان أمنهم الشخصي، منذ أسبوعين كاملين. كذلك قيل نفس الكلام من الجانب الأمريكي. ما يعني أن السلطة، كانت على علم، ولو بشكل غائم، بأن شيئاً ما سيحدث قريباً. فكيف نفهم هذا الأمر ؟ وكيف نبرر لها أو لغيرها، القول بأن تواطؤاً ما قد تمّ بين إسرائيل وكل من أمريكا وبريطانيا، في هذه القضية ؟ لئن حصل هذا، فهو لن يفاجئنا كفلسطينيين، بل لعله يكون ضرباً من البديهيات ! لكنْ، هل نكتفي بهذا التبرير، ونرفع يدنا عن مسؤوليتنا في اعتقال الرجل ومئة وعشرين من إخوته ورفاقه ؟
لقد فشلت سلطتنا، على نحو مفجع، في هذا الملف، كما فشلت في غيره. ونحن لن نتجنى عليها بتحميلها ما لا تطيق، فنحن نعرف إمكانياتها، القريبة من الصفر، ونعرف أن لا أبا مازن ولا سواه، بقادر على ضمان أمن أحمد سعدات، أو ضمان أمن أي مواطن فلسطيني عادي من بطش إسرائيل. فالمؤسسة الأمنية لدينا عاجزة تماماً، ومهلهلة، ومنشغلة في حساباتها الداخلية عديمة البصر والبصيرة. وإسرائيل قادرة حد الافتراء والعماء. لكن، مع ذلك، كلنا يعرف أن السلطة، لو أرادت، لفعلت شيئاً ما بطريقة ما، لحل مشكلة هذا الملف الغريب المريب.
إنما فات أوان مثل هذا الكلام الآن، فها هي إسرائيل أولمرت، تعتقل الرجل، وتقوده إلى جهة غير معلومة، ولا أحد يعرف ماذا تنتوي في الخطوة التالية. لذا، على قادة الجبهة الشعبية، أن يتصرفوا بحكمة، وأن يطلقوا سراح المختطفين الفرنسيين والبريطانيين والأمريكان، فهؤلاء لا ذنب لهم، وهم أصدقاء وحلفاء للشعب الفلسطيني، وجاؤوا إلى الأراضي المحتلة، لخدمته، والتخفيف من معاناته.
يجب ألا ننسى هذه الحقيقة الدامغة، في ذروة ردود الفعل الغاضبة، وفي حمى الغضب المشروع، على جريمة إسرائيل الجديدة. لقد عانينا اليوم، ومنذ خبر اقتحام القوات الإسرائيلية لسجن أريحا، من إغلاق الشوارع وإحراق العجلات، ومن تشوّش الحياة في مختلف مرافقها. وأظن أن هذا يكفي ولا داعي للمزيد منه. فنحن من يدفع ثمن هذا لا إسرائيل.
من جهة ثانية، على حماس أن تكون جادة في مسألة تشكيل حكومة وحدة وطنية، بأسرع وقت، فاعتقال أحمد سعدات، يؤكد من جديد، حقيقةً قديمة، وهي أن إسرائيل، لا تفرّق، عملياً، بين هذا التنظيم أو ذاك. فالكل لديها واحد، وعليه لا بد من تسوية مسألة تشكيل الحكومة، على أساس إئتلاف وطني، بعيداً عن المراوغات، والالتفافات، والحسابات الصغيرة. فنحن أحوج ما نكون الآن، إلى حكومة كهذه، ولتكن حكومة طوارىء، أو حكومة إدارة أزمات، أو أي اسم آخر، فلا يهمّ الإسم، عسى تنجح قليلاً في علاج مصائبنا المتراكمة.
وآخر هذه المصائب، تأخر صرف رواتب الموظفين، وقد انتصف الشهر أو يكاد ! أي أن مليوناً من الفلسطينيين وربما مليوناً ونصف، يعيشون منذ أسبوعين بثلاجات فارغة تماماً وجيوب خاوية بالمرة، ولا همّ لهم سوى سؤال : متى ينزل الراتب !
فيما يضحك أبو علاء قريع على عقولهم وذقونهم، فيقول لهم كل صباح جديد : الراتب سينزل بعد يومين ! واليومان بالطبع ليسا مما نعد نحن، وإنما، مما يعدّ الجان والقطط السمان ! حتى بدت الحكاية، وكأننا ننتظر [ غودو] لا بضعة شواكل لا تسمن ولا تغني من جوع !
... الله يعينك يا شعبنا.. يعينك، وقد تحوّلت بفضل عبقرية قريع وسواه إلى مجموعة من المتسوّلين الجائعين.
التعليقات