صبيحة الشيخ داود
في صبيحة يوم من شباط عام 1922 فوجيءالشعب العراقي وهو في قمة دفاعه عن الحجاب؛ بصبية في الثانية عشرة من عمرها تركب الجمل وتمثل الخنساء في مهرجان (سوق عكاظ) تحت رعاية الملك فيصل الاول؛ ولم تكن تلك الصغيرة الا صبيحة الشيخ احمد الداود ابنة احد شخصيات الدين الكبار الذي اصبح فيما بعد وزيرا للاوقاف. حينما وقفت صبيحة سافرة وهي تلقي شعر الخنساء؛ لم تتهيب مقام الملك؛ ولم يرتج عليها بسبب ذلك الحشد الكبير وصعوبة لغة القصيدة الفصيحة؛ بل راحت تثير الاعجاب بحسن الاداء وقوة الحافظة والاندماج بتمثيل الشخصية. اذن هكذا كانت البداية الجريئة.

في عام 1936؛وبذات الجرأة؛ التحقت صبيحة بكلية الحقوق فكانت الفتاة الاولى التي انتمت الى هذا الصرح العلمي؛ لتجلس على مقاعد الدرس بين زملائها الرجال؛ وبحمايتهم ورعاية الاستاذ العميد منير القاضي؛ وحينما تخرجت عام 1940عملت في نطاق وزارة المعارف؛ كمفتشة تربوية ثم مدرسة في دار المعلمات حتى عام 1956؛ حيث عينت عضوا في محكمة الاحداث وبقيت في منصبها القضائي هذا مدة 14 عاما؛ تجول بين قضايا اجتماعية ونفسية يتغلب على اكثرها عنصر العادات والتقاليد.

كانت وهي تنظر في قضيا المحالين من صغار السن؛ تسترجع كل ما قرأته او مارسته تربويا؛ فيخفق فؤادها بالرأفة والرعاية ؛ وتميل الى الانصاف والرحمة والاصلاح؛ لا الى التشدد والقسوة والعقاب. لقد حدثني قضاة ومحامون كثر عن اسلوبها المتميز بدراسة القضايا بروح متأنية ورؤوفة؛ فأشادوا بكفآءتها القانونية؛ وقدرتها على التحليل النفسي واستيعاب كل قضية من خلال ظروفها ووقائعها وارتباطها بالبيئة التي حدثت فيهااو أثرت في اسبابها ومجرياتها وطبقا لنصوص القانون ساري المفعول..
كما ذكر لي الصحفي الكبير المرحوم صبيح الغافقي هذه الحادثة قائلا (عرضت مرة على الاستاذة صبيحة قضيتان متشابهتان في الوقائع لصبيين في ذات السن؛ واحد من الوزيرية؛ والآخر من محلة التسابيل قرب باب الشيخ؛فلما دققت في الاوراق التحقيقية اتضح لها بان هناك فرقا بينا في بيئتي كل منهما؛ من حيث الرعاية الاسرية والسلوك التربوي والعادات والتقاليد ؛ فأخذت ذلك بنظر الاعتبار عند تحديدها للتكييف القانوني من خلال أسباب ودوافع كل منهما لاقتراف الجريمة) وهكذا يكون منظور العدالة عند الشخصية القانونية التي تتصدى للفعل الاجرامي وتدرسه من مختلف جوانبه طبقا للزمن الذي حدث فيه؛ ولبيئة المكان الذي دارت وقائعه على مسرحه.

لعبت الراحلة صبيحة الشيخ داود دورا رياديا اجتماعيا في النهضة النسوية العراقية؛ فقد شاركت في مختلف الجمعيات الخيرية كالهلال الاحمر والام والطفل والاتحاد النسائي؛ وساهمت في كثير من المؤتمرات النسوية والانسانية داخل العراق وخارجه؛ فكانت صوتا امينا دلل على رفعة المرأة وتقدمها وصدق كفاحها من اجل المساواة ا في الحقوق والواجبات. ولقد نشرت عشرات المقالات والبحوث والقت كثيرا من المحاضرات؛ ثم اصدرت كتابين رآئدين هما؛(اول الطريق) وهو عن تجربتهاالحياتية والنسوية؛ والثاني (تجربتي في قضاء الاحداث)؛ وهو عن عملها المؤصل في تلك المحكمة القضائية الاجتماعية ومن يطلع على هذين المؤلفين؛ ينبهر بالافكار الحديثة التي طرحتها؛ وباللغة العربية الفصيحة المشرقة التي استعملتها دونما تكلف او تصنع.اضافة الىتطعيم كل ذلك بالامثال والحكم التي ارتكزت عليها في توضيح آرائها التي جاءت بها في صفحاتها المشرقة التي اعتمدت على نصوع البيان الادبي وسلاسة البلاغة المنتقاة الصافية.
.
لقد حضرت كثيرا من مجالسها الادبية في صالونها الانيق من بيتها العامر في ابي نؤاس المطل على نهر دجلة الخالد؛ فكان ذلك المجلس حافلا بالشخصيات البارزة في القانون والادب والدبلوماسية والفن؛ تصدح في جوانبه قصائد الشعر؛ وحكايات الذكريات والموسيقى العذبة والطرائف التراثية التي كان يسوقها اسبوعيا جهابذة الادب والتاريخ كمصطفى جواد وجعفر الخليلي والشيخ جلال الحنفي وفؤاد عباس وحافظ جميل وكوركيس عواد وابراهيم الوائلي ويوسف يعقوب مسكوني وعبد الهادي التازي... الخ. وكانت صبيحة الشيخ داود تضفي من شخصيتها المتعفـفــــة الكريمـــة المتواضعة على الحاضرين رقة في الحديث ودماثة في الخلق. وعليه؛ لم يكن غريبا ان يذكراستاذها العميد القاضي في مقدمتة لكتابها(اول الطرق)حينما اورد العبارة الصادقة التالية:(وقد دفعني الى كتابة هذه المقدمة قيام الصلة الوثيقة بيننا؛ صلة استاذ مخلص مع تلميذة نجيبة وفية؛ فقد قضيت في تدريسها مع زملائها أربع سنوات في كلية الحقوق؛ وهي الفتاة الوحيدة بين نحو الف طالب يحترمونها وتحترمهم ويقدرون نشاطها وسعيها؛ وتقدر ادبهم وحسن سيرهم معها على وجه المساواة والحرمة المتبادلة..)

توفيق الفكيكي

كان كتاب (دفاع عن الشاعر ابي العتاهية) اول كتاب اقرأه للفكيكي فأعجبت بطريقته القانونية في التصدي للخصومة؛ ولم تتح لي الفرصة في لقائه الا عام 1956حينما حل في بغداد الشاعر اللبناني امين نخلة؛ حيث أقيمت له حفلات تكريم من بينها؛ تلك المأدبة المعتبرة التي أدبها الشاعر العملاق الجواهري في بيته في الاعظمية ودعا اليها عددا من الشعراء والادباء ورجال القانون كان لي شرف المشاركة معهم.
كنت اجلس وعبد الوهاب البياتي وحارث طه الراوي على اريكة تقابل باب غرفة الاستقبال؛ حينما دخل رجل قصير القامة أنيس الطلعة؛ بشوش الوجه؛ يضع نظارة سميكة على عينيه النفاذتين؛ وبعد التعارف المعتاد عاد ادراجه و فضل الجلوس قربنا؛ ليشاركنا حديثنا عن الادب الحديث؛ وأساليب الصياغة الجديدة المبتدعة للتعبير عنه.؛ وقد لاحظت من خلال مجريات الحوار كم كان الفكيكي متتبعا لما ينشر في الصحافة الادبية من نتاج شباب تلك الحقبة؛ حيث لم يفته التنويه بعدد منهم كالبياتي والسياب ولميعة عمارة وعبد الملك نوري وحسين مردان... الخ ؛ كان ذلك الحديث الشيق قد شدني الى ثقافته التراثية والمعاصرة وزادني تتبعا واعجابا بما رفد به المكتبة العربية بنتاج يستحق الاكبار والتقدير.

عمل الفكيكي قاضيا في مدن شتى (سامراء؛ خانقين؛ النجف؛ كربلاء؛ الكاظمية؛ الاعظمية) فكان مضرب المثل في الاناة و العمق والصدق والعدالة ؛ و لقد كان يزاوج مابين اسلوبه التربوي الذي تلقاه اثناء فترة مزاولته التعليم؛ وبين حصافته كمحام يدافع عن حقوق موكليه. و لعل لتجواله في مدن عدة اثره في تحصيله الاجتماعي والثقافي والفقهي الواسع؛ وبخاصة ما افاد منه من خلال امتداد صداقاته ومعارفه حيث شمل شخصيات متنوعة في طباعها ومراكزها وانتماءاتها الحضرية و الريفية و القبلية وفي ثقافاتها الدينية او الاكاديمية؛ وكلها منحته خزينا اضافيا واسعا من المعرفة الواقعية.

لم يشعرنا الفكيكي ابدا؛ نحن شباب المحاماة آنذاك؛ بفارق السن والمكانة؛ بل كان يمنحنا الاعتبار اللائق بزملاء مهنة واحدة نغرف جميعا من معين قانوني واحد؛ وكان يؤكدبهذا الجانب على ان ( كل الفرق يكمن في طول المراس وتراكم الخبرة والتجربة) وبقوله هذا كان يشد من عزيمتنا ويقوي من أزرنا.

كان اسلوب الفكيكي الادبي في غاية التدفق البلاغي العامر بالجملة الناصعة والعبارة المتماسكة؛ وهو يقربه الى اساليب كتاب ذلك العصر من امثال ابراهيم حلمي العمر وابراهيم صالح شكر وفهمي المدرس واحمد عزت الاعظمي وعبد الرزاق محي الدين... الخ وما كتبه التي طبعها في حينه الا صيغة متناسقة ما بين الفقه والادب؛ ما بين الاحداث الاجتماعية الواقعية و اطارها من الاسلوب الشعري الساحر ؛بل ما بين اسلوب البلاغة الرقيقة؛ وحرفية النصوص القانونية... وويمكنك التثبت من وجهة النظر هذه بمراجعة كتبه المطبوعة: (الراعي والرعية؛ الحجاب والسفور؛ سكينة بنت الحسين؛ عبقرية الشبيبي؛ النخيل؛ رسالة في فقه الوقف المقارن ؛أدب الفتوة؛ دفاع عن الشاعر ابي العتاهية.... الخ)

كان منزل الفكيكي يجاور دار الصحفي الكبير خالد الدرة (صاحب مجلة الوادي) وهو يقابل آنذاك ثانوية الاعظمية للبنين؛ وكان ذلك البيت العامر مجمعا لشمل الادباء؛ و كان اللقاء يتم على مائدة عامرة بما لذ وطاب؛ ا نحضى خلالها باحاديث شتى تتناول في مجملها الونا من نفحات الادب والصحافة والفن والقانون؛ وكان لحضور الفكيكي اثره المباشر على تنوع الحوار وطرافته وحسن تنقله من قصيدة رائقة؛ الى ادب شعبي؛ الى قضايا ساخنة ما زالت تنظر امام المحاكم..

لقد عرف الفكيكي بالكرم الحاتمي والاغداق على المحتاجين؛ ماديا ومعنويا؛ ولهذا جاء رثاء صديقه الحميم الشاعر المعروف حافظ جميل عند رحيله من ادق ما لامس حقيقة صفاة ذلك القاضي الاديب؛ والانسان العطوف ؛حيث قال فيه:
ابكي الجواد الاريحي خلا من الند الضريب
شهم يجوع ولا يرد سؤال محتاج حريب
يعطي ويخشى ان يرى غير المروءة من رقيب

الحلقة الأولى