لا شك أن أحمد سعدات والشوبكي ورفاقهما الشجعان، يتمنون الآن لو عاد الزمن أياما قليلة إلى الوراء. ولا شك أيضا أنهم يتمنون أن يكون الذي يحصل لهم الآن كابوسا لا واقعا، وأنه سينتهي بمجرد أن يفيقوا من نومهم، ويفتحوا أعينهم، ليجدوا أنفسهم في أريحا بين إخوانهم وخلانهم، وأصدقاءهم وزوارهم والأقرباء. فيوم واحد في السجون الإسرائيلية يفوق دهرا في أريحا التي وفرت لهم ما يشتهون ويبتغون، ولم تحرمهم شيئا سوى نعمة التحرك والانتقال من مكان إلى مكان، وحتى هذه المشكلة (الانتقال) حُلت على طريقة صاحبي الذي كان يقول: إن كنا لا نستطيع الذهاب إلى حانة أبي صفوان، فحانة أبي صفوان تأتي إلينا.
بداية لا بد من التأكيد أن ما فعلته إسرائيل مؤخرا في سجن أريحا وحشي وظالم، وبربري بكل المقاييس. وإن اختطاف سعدات والشوبكي ورفاقهما، وما صاحب الاختطاف من إذلال وإهانات، عمل من إعمال المافيات والعصابات والمنظمات الإرهابية الإجرامية التي تحترف خطف الرهائن والقتل والابتزاز.
ومنعا لأي تأويل أو مزاودات، سنعتبر أن كل أقوال وأفعال المنظمات الفلسطينية يصب في المصلحة الوطنية، ولا غبار عليه. وأن جميع هذه المنظمات محقة في سياساتها وممارساتها وسلوك أعضائها، لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من أمامها، ولا عن جنباتها. وأن جميع الدول الغربية تتآمر علينا، وفي المقدمة أمريكا وبريطانيا، وإنهما منقادتان لإسرائيل، تأتمران بأمرها، وتنفذان سياستها.
وفي المقابل علينا الاعتراف أننا مجبرون على التعامل مع العالم. وإننا لسنا مركز الكون، ولسنا وحدنا فيه. وإننا أيضا بحاجة لهذا العالم أكثر مما هو بحاجة إلينا، ومن الضروري كسب ثقة الأصدقاء، لا تحويلهم إلى أعداء. كما يتوجب علينا أن ندرك أن مشاعرنا وآراءنا لا تكفي وحدها لنصرة قضيتنا، ونيل حقوقنا، بل لا بد من وقوف أكثرية دول العالم إلى جانبنا، والفاعلة منها بشكل خاص.
قبل عدة أعوام نشأت مشكلة كبيرة، فلسطينية إسرائيلية، على خلفية قتل وزير السياحة الإسرائيلي، وباخرة السلاح، اتهم بها سعدات والشوبكي ورفاقهما، وطالبت إسرائيل بهم لمحاكمتهم، بل أصرت على تسلمهم. وكانت الأمور جد خطيرة، وأكبر بكثير من الشوبكي وسعدات ورفاقه، كادت أن تودي بالرئيس عرفات وصحبه، بعد أن طوقت إسرائيل مقر المقاطعة حيث يتواجدون، وبدأت بهدم الجدران والمباني.
وبعد أخذ ورد واتصالات واجتماعات ومحادثات على أعلى المستويات العربية والأجنبية تم الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية دولية، أن يودع الشوبكي وسعدات وباقي الرفاق سجن أريحا، برقابة أمريكية بريطانية، والسجن سجن كما هو معلوم لا منتجع، له لوائحه وقوانينه.
لم تمض أشهر قليلة على تنفيذ الاتفاق حتى أصدر القضاء الفلسطيني حكما بإطلاق سراح المعتقلين، جاهلا أو متجاهلا أن المسألة ليست فلسطينية، فلسطينية. وإنما اتفاق فلسطيني إسرائيلي برعاية دولية. وظل حكم القضاء الفلسطيني بين أخذ ورد وضغوط، إلى أن وعد الرئيس الفلسطيني مؤخرا بتنفيذه، معلنا عدم قدرته على حمايتهم من الإسرائيليين، وعدم مسؤوليته إذا تمت ملاحقتهم، محملا سعدات ورفاقه وأصدقاءهم المسؤولية. كما وعدتهم حماس أيضا بإطلاق سراحهم، على قاعدة أن الاتفاقات السابقة مع الكيان الصهيوني غير شرعية، وخاصة الاتفاق المتعلق بحبسهم، لأنهم مجاهدون مناضلون ضد الإسرائيلي وقادته ورموزه.
دعونا نستند في تحليلنا لأحداث أريحا إلى نظرية المؤامرة، ونتتبع خيوطها، بما أنها خبزنا وماءنا وهواءنا، وطالما علقنا عليها مصائبنا وسوء تصرفاتنا. فنقول أن ما حدث مؤامرة دبرتها مجموعة محترفة، شاركت فيها بعض الأطراف عن عمد أو عن جهل، وبغض النظر عن النوايا الحسنة والسيئة، بالتعاون المباشر أو غير المباشر مع إسرائيل والدول الاستعمارية الإمبريالية متبعين أساليب عدة، منها الإحراج، ومنها الخداع والتضليل. فأحرجوا القضاء الفلسطيني ليصدر حكما بالإفراج عن المعتقلين، باعتبار أنهم أبطال وطنيون يستحقون أن يكللوا بالغار، لا أن يودعوا السجون. وأحرجوا السلطة أمام القضاء والشعب الفلسطيني. وضللوا الأسرى حين زينوا لهم سهولة إطلاق سراحهم، وحين أوهموهم بقدرتهم على حماية أنفسهم، فشجعوهم على تحمل مسؤولية إطلاق سراحهم، وقبول ما سيحصل لهم، وهم يعلمون علم اليقين أن سجن أريحا خير حماية لهم، لأن إسرائيل لن تتركهم، وستلاحقهم أكثر من غيرهم، وتتحين الفرصة والعذر لاختطافهم ومحاكمتهم، ورتبوا للأمر في سجن أريحا بحيث يخالف المسؤولون عنه لوائح ونظام السجن، في تعاملهم مع المسجونين، كي ينسحب الجنود البريطانيون العزل من السلاح، كرد فعل على هذه المخالفات، وعدم تنفيذ نظام ولوائح السجن، بعد أن أعيتهم الحيل، وأصبح وجودهم لا معنى له. هدف المؤامرة، والمتآمرين: التخلص من المعتقلين، وتسليمهم لإسرائيل، وتوتير علاقة السلطة الفلسطينية مع أمريكا وبريطانيا، وإحداث شرخ في علاقاتها الدولية، وإيقاع العدواة بينها وبين الجبهة الشعبية، ووقف أية اجتماعات أو محادثات محتملة بين السلطة وإسرائيل، لقطع الطريق على أي اتفاق، وهو ما تريده إسرائيل. ثم تشويه صورة الفلسطينيين وإظهارهم أمام العالم كله، من خلال ردود فعلهم على ما سيحدث، كغوغاء يعتدون على من يقدم لهم المعونات والمساعدات، فيدمرون ويحرقون أعلام ومقرات الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ويعتدون على موظفي الأمم المتحدة، والموظفين الأجانب الذين جاؤوا لمساعدتهم، فيأمرونهم بالمغادرة والرحيل، مهددين متوعدين من لا يمتثل لأمرهم بالويل والثبور، ويأخذون من تطاله أيديهم رهائن.
فهل كانوا خبثاء، وحققوا ما أرادوا؟ سؤال برسم الإجابة.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات