بضع نقاط للتذكير:
في مقالنا بعنوان quot; هل فرنسا ndash; quot;تتداعىquot; - ؟quot;، المنشور في 19 أكتوبر 2003، لخصنا أفكار عدد من الباحثين والمؤلفين الفرنسيين عن هذا الموضوع، وتوقفنا خاصة لدى كتاب [ فرنسا التي تتداعى]، للباحث السياسي والاقتصادي نيكولا بافاريه، الصادر حينئذ والذي أثار مقالات ردود وندوات تلفزيونية. وصار الكتاب من الكتب الأكثر رواجا في فرنسا. بافاريه ومؤلفون آخرون تحدثوا عن تراجع فرنسا في العالم اقتصاديا وسياسيا، مشخصين واقع العجز والجمود الداخليين.
كتب بافاريه أن القيادات الفرنسية تكره التغيير وتعمل على ترسيخ جمود الوضع القائم. وكان من رأي المؤلف أن عقلية الرضى بما هو قائم، تستحوذ على رجالات السياسة والموظفين والنقابيين، الذين همهم هو الحفاظ على النظام الاجتماعي -الاقتصادي quot; الفاشلquot;، على حد تعبيره.
شئ من التاريخ الفرنسي القريب:
إن الضجة الكبرى، الطلابية والنقابية العمالية ومعها أحزاب اليسار القائمة اليوم حول عقد عمل جديد موجه للشباب دون 26 عاما من غير المؤهلين أو أصحاب شهادات، تأتي دليلا آخر على تحليل بافاريه وسواه من الباحثين وعلماء الاقتصاد.
وقبل التعريف بهذا القانون الذي صادقت عليه الأكثرية في البرلمان، نقول إنه خلال الأربعين سنة ماضية كان شارع الطلبة والنقابات العمالية المسيرة إيديولوجيا تحتج بصخب وعنف أحيانا ضد أي خطوة إصلاحية سواء في سوق العمل أو نظام التعليم. وتلخص لنا صحيفة الفيجارو اندلاع المظاهرات والإضرابات كلما أريد تجديد ما. وعانت من ذلك حتى حكومتين اشتراكيتين مرتين، وهذه هي القائمة:
ـ عام 1973 هيجان الطلبة ضد قانون وزير الدفاع ميشيل دوبري عن الخدمة العسكرية. وفي 24 نيسان كانت اللافتات تقول:quot; لا للمدارس الثانوية المعسكرةquot;. القانون مر وانتصر.
ـ في مايس 1975: مظاهرات صاخبة ضد قانون وزير التربية حول تشكيل مدارس متوسطة موحدة [ المرحلة الأولى من الثانوية ]، وكانت اللافتات تقول:quot; كل الطلبة والعمال كفاح واحد.quot;
ـ في مارس ونيسان 1976 هيجان ضد إصلاح نظام الحلقة الجامعية الثانية، الذي كان يرمي لانفتاح الطلبة على عالم العمل، وكان إصلاحا متواضعا. وفي 15 نيسان كان المتظاهرون يهتفون:quot; لا لمعاهد أرباب العمل.quot; استمرت الحركة شهرين، ومر القانون بعد تلطيفه.
ـ في 1986 تظاهر حوالي 500 ألف من الطلبة في 27 نوفمبر ضد مشروع قانون يمنح الجامعات درجة من الصلاحيات الذاتية. وقد توفي طالب متظاهر لعنف غير مبرر لأحد الشرطة، فقرر رئيس الوزراء شيراك سحب المشروع. كان شعار المظاهرات: quot; لا لنظام الانتقاء.quot;
ـ في زمن حكومة جوسبان الاشتراكية تظاهر حوالي 200 ألف طالب مطالبين بوقف العنف في المدارس، وكان مطلبا سليما حيث كانت أقلية من الطلبة تمارس العنف ضد زملائهم والمدرسين. كان المتظاهرون ينادون: quot; يا جوسبان لقد انتهيت، إن طلبة المدارس الثانوية في الشارع.quot;
ـ في مارس 1994 زمن حكومة بالادور الشيراكية مظاهرات الطلبة ضد مشروع لعقد عملاسمه quot;عقد الاستخدام المهنيquot;. وكان المشروع يقضي بتشغيل أي شاب عاطل مع تدريب مهني ولكن بأجرة تمثل 80 بالمائة من الحد الأدنى للأجور. كان المتظاهرون يهتفون: quot; أرباب العمل يحلمون وبالادور ينفذ!quot;.وقد سحب المشروع الذي كان محاولة جزئية أخرى لمكافحة لبطالة بين الطلبة غير المؤهلين.
ـ في 1998 زمن الحكومة الاشتراكية الجديدة جرت مظاهرات الطلبة للمطالبة باعتمادات أكثر للمدارس الثانوية. بادر الوزير كلود أليغرك لوضع خطة طوارئ بعدة مئات من ملايين الفرنكات، بينما الطلبة يهتفون في الشارع: quot;يا أليغرك: لسنا بقرات.quot;
ـ في مايو 2003 هيجان ضد مشروع لذاتية الجامعات تقدم بها الوزير فيري. وقد قام عدة آلاف من الطلبة النشيطين في الحركات اليسارية بعرقلة الامتحانات في مدن ليل وتولوز وطولون وغيرها. كانت هتافات هذه المرة: quot;أيها الوزير فيري: هل تعلم أين ستوضع إصلاحاتك؟!quot;، [ قاصدين المزبلة].
ـ في شباط 2005 مظاهرات ضد إصلاح نظام البكالوريا، وكانت هتافات الطلبة تهين الوزير المسؤول. جرى تعديل المشروع ثم اعتمد.
إما كل شئ أو لا شئ!
نرى مما مر أنه إذا كان للطلبة في موقفين تبرير للاحتجاج فإن أغلب الحالات المارة كانت غير مبررة، ناهيكم عن أن أساليبهم دوما كانت متشنجة ومتشددة.. وهذا أيضا شأن الضجة القائمة ضد قانون عقد العمل الجديد، الذي برغم نواقصه وبعض ثغراته يصب في مجرى مكافحة البطالة التي تبلغ في فرنسا ضعف المتوسط من البطالة في الاتحاد الأوروبي، وحيث ثمة حوالي عشرة ملايين عاطل، وتليها ألمانيا في عهد الحكومة الاشتراكية التي أورثت حوالي ثمانية ملايين عاطل. والفرنسيون اعتادوا التباهي بما يصفونه quot;النموذج الفرنسي الاجتماعي ـ الاقتصاديquot;، بينما يشنعون على quot;النموذج الأنجلو ـ سكسونيquot;! ولكن نسبة البطالة في بريطانيا أدنى بكثير جدا، والاقتصاد البريطاني متحرك، وسوق العمل مرنة جدا بلا القيود الصارمة المفروضة على سوق العمل الفرنسية، والتي تجعل الكثيرين من أرباب العمل في القطاع الخاص يفضلون غالبا استخدام عمال مؤتين على عامل بعقد غير محدد وبضمانات كبيرة ترهق أرباب العمل. ومن هنا نجد عشرات الآلاف من الفرنسيين والشباب خاصة، يهاجرون لبريطانيا للعمل، وهي هجرة لا تزكي النموذج الفرنسي مع أنها ذات دلالات كشافة عن حقيقة العيوب الكبرى في النموذج الفرنسي.
القانون البرلماني حول عقد العمل الجديد يمكّن الشاب غير المؤهل من تحت ال26 سنة من الحصول فيالمشاريع الكبرى [ أكثر من 100 عامل] على عقد عمل يكون تدريبا وتجربة لمدة عامين ولكن يحق لرب العمل الاستغناء عنه خلال فترة العامين إذا لم يتقن المهنة أو أصيب المشروع بعجز، مع منحه بعض التعويضات والضمانات من الدولة وأرباب العمل وإمكان فترة تدريب أخرى لمدة محددة على نفقة الدولة. إن مثل هذا العقد فيه نواقص وعيوب ولكنه جدير بالعناية والاهتمام. وهو قانون يفيد خاصة شباب الضواحي. وقد أعلنت الحكومة عن استعداها لتعديل القانون وتحسينه، داعية للحوار مع الطلبة والنقابات. غير أن هؤلاء يرفعون شعار quot;لا حوار قبل إلغاء القانونquot;. وقد هدد زعيم النقابات الشيوعية القوية بquot;القبضة الحديديةquot; إذا لم تسحب الحكومة هذا القانون الذي أقره برلمان منتخب. والسؤال الاول أي معنى يبقى للحوار إن سحب القانون وحول ماذا؟ وثانيا هل الشارع في دولة ديمقراطية عريقة كفرنسا يحل محل البرلمان وينسخه؟! وللعلم فإن المنضوين للنقابات العمالية الفرنسية لا يتجاوزن 9 إلى 10 بالمائة في حين أن في الدانيمارك نقابات تضم 84 بالمائة من مجموع العمال. غير أن تمركز النقابات الفرنسية في مشاريع القطاع العام يعطيها قوة مضاعفة وبإمكانها جر جمهرة العمال في حالات كثيرة وخصوصا عمل النقل الذين بإمكانهم شل الحياة اليومية والاقتصادية وهو ما يجري عادة، بينما تقف النقابات موقفا قطعيا ضد اعتماد نظام خدمات الحد الأدنى في المواصلات كما هي الحالة في بلدان الاتحاد الأوروبي. وفضلا عن ذلك تقف ضد إدخال مرونة لازمة في قانون عمل 35 ساعة فقط في الأسبوع. وعمال الخدمات العامة والموظفون يعملون أقل مما في أية دولة غربية أخرى ويتمتعون بإجازات وعطل ضعفا!
النتيجة استمرار وتصاعد البطالة وإضعاف الصناعة الفرنسية أمام المنافسة الدولية.
لقد علق صحفي أمريكي في باريس على المظاهرات الطلابية الراهنة ضد القانون بأنه عندما كان يبحث عن عمل فلم يكن ينتظر الحصول من البداية على عقد عمل دائم ومضمون 100 بالمائة، وأضاف أن أي شاب أمريكي عاطل سيرحب بمثل العقد الفرنسي لو عرض عليه. وللعلم فإن القانون ليس الأول من نوعه بل سبقه قانون عقد عمل موجه للمشاريع الخاصة الصغيرة [ أقل من عشرة عمال].ربة. فلماذا لا تترك الفرصة للعقد الجديد لتبيان مزاياه أو أضراره وخصوصا ما دامت الحكومة مستعدة للتعديلات؟ وماذا تكون النتيجة إن سحب المشروع غير المراوحة في نفس دوامة البطالة المزمنة بلا تحرك ما، وهو وضع لا يزعج عمال القطاع العام الذين يريدون الحفاظ على كل مكاسبهم ويرفضون أي تغيير يفسرونه بالإضرار بهم. كما أن سحب القانون إضعاف لسلطة البرلمان وهزة للحكومة.
إن هذه الشرائح الواسعة من الشبان والعمال الفرنسيين [ كذلك ومن المزارعين] تنظر للدولة كدولة الوهب والكرم، فعليها وحدها مسؤولية معالجة كل العيوب والشرور، وعليها أن توزع ما تجمع من ضرائب لترضيتهم، وعندما يواجهون إجراء حكوميا لا يعجبهم يعملون فورا على حشد الشارع وممارسة عمليات احتلال المباني أو إغلاق الطرقات، كما رأينا هذه الأيام من ممارسات طلبة من أقصى اليسار في غلق الجامعات ومنع الطلبة الذين يريدون مواصلة الدراسة نظرا لقرب الامتحانات، ثم ضرب الشرطة بكل ما يقع تحت أيديهم وجرحهم، كما جرى مع جامعة السوربون في الحي اللاتيني، والأكثر تطرفا بينهم هاجموا المقاهي القريبة من السوربون وبعض المكتبات ومحل همبرغر وأحرقوا بعض السيارات.
فهل نحن على أبواب انتفاضة طلبة وشباب كانتفاضة 1968؟ هذا ما نعالجه في مقال مستقل.
التعليقات