لا تزال منظمة التحرير الفلسطينية تخال نفسها ممثلة للشعب الفلسطيني، لا بل أكثر من ذلك، تتوهم أنها الممثل الشرعي (الوحيد) لهذا الشعب المكافح المقهور، ناكرة بذلك حق غيرها في التمثيل، والوقائع المستجدة على الأرض. ورافضة الاعتراف بحق الفلسطينيين في أن يكون لهم ممثلين غيرها. فمن هي هذه المنظمة التي ترى نفسها على هذا النحو، وما هي مكوناتها؟ إنها فتح الفصيل الأكبر والأهم الذي رفضه غالبية الفلسطينيين، وأسقطوه بالضربة القاضية، ومعها مجموعة أخرى من منظمات صغيرة غير فاعلة، وليس لها أي حضور يستحق الذكر في الشارع الفلسطيني، بدليل نتائج الانتخابات الأخيرة.
لماذا تريد منظمة التحرير أن تفرض نفسها وصيا على الشعب الفلسطيني، أو رئيسا أعلى، أو مرشدا روحيا وسياسيا له، يحدد له مسبقا ما ينفعه وما يضره، ويرسم له طريقه، معيدة بذلك مفاهيم الحزب الواحد التي كانت سائدة في أواسط القرن الماضي والتي تخرج من مدرستها، وتمسك بأساليبها في الحكم والوصاية والتسلط، معظم قيادات المنظمة، هذه المفاهيم التي لفظتها شعوب العالم الثاني التي كانت مغلوبة على أمرها، وأطاحت بها منذ زمن بعيد.
صحيح أن كل الدول العربية والأجنبية اعترفت في وقت سابق بمنظمة التحرير كممثل شرعي (وحيد) للشعب الفلسطيني، لكن ذلك لا يبرر وجودها للأبد ممثلا شرعيا وحيدا، فقد سبق للعالم أن اعترف بحكومة الاتحاد السوفييتي، وحكومات أوروبا الشرقية الموالية، فأين هي الآن؟ وهل ما زال العالم يعترف بهم بعد أن حلت محلهم حكومات جديدة لا تمت للقديمة بأية صلة؟
لقد نشأت منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة الحرب الباردة، فتلقفتها الدول الشرقية، بعد أن سوقتها الدول العربية، ودعمتها سياسيا وإعلاميا وماليا، إثر الهزيمة العسكرية والأخلاقية المنكرة في حرب يونيو حزيران (1967) حيث لم يكن غيرها على الساحة الفلسطينية، مستندة في ذلك إلى الشرعية الثورية، لا الشرعية الشعبية، التي لم يعرفها العرب من قبل. والتي حين تمت مؤخرا في فلسطين بشكل ديمقراطي وشفاف وتحت أنظار العالم أجمع، أسقطها الفلسطينيون وسحبوا ثقتهم منها. ومن طرائف الزمان أن تكون الدول العربية والأجنبية لا تزال تعترف بالمنظمة، بينما لا يعترف بها غالبية شعبها الذي تدعي تمثيله، بعد أن أطاح بها، وسحب البساط الأحمر من تحتها، فأي تمثيل شرعي تبقى لها، وأي (وحيد) هذا الذي تدعيه؟
لم يكن إسقاط غالبية الشعب الفلسطيني لفتح، ومنظمة التحرير من خلفها، نزوة عابرة، أو لحظة ضعف قاهرة. بل كان عن سابق تصور وتصميم، ونتيجة معاناة صعبة طويلة من سوء سياسات المنظمة وفصائلها، وتراكم واتساع ملفات الفساد بكل أشكاله وألوانه فيها، وسوء تصرفات قادتها ورجالها على مدى عقود، ألحقت بشعبها الخسران والويلات، بدءا من تجارة خطف الطائرات، ووضع البيض كله في سلة رجل واحد، إلى الحروب الأهلية التي أشعلتها أو تورطت فيها، في كل من الأردن ولبنان، ومساندتها للطاغية صدام حسين ضد استقلال الشعب الكويتي، التي اعتذر عنها مؤخرا الرئيس أبو مازن، والتي انعكست سلبا على الشعب الفلسطيني أينما كان.
لم تكن الأطراف المكونة لمنظمة التحرير الفلسطينية متصالحة يوما فيما بينها، أو متفقة على سياسة واحدة موحدة. بل دوما كانت متناحرة، تطعن بعضها في السر والعلن. ولولا الصيت، والدعم المعنوي الذي توفره المنظمة لفصائلها، والأموال والغنائم التي تتقاسمها فيما بينها، لانفرط منذ زمن بعيد عقد هذه المنظمة، الحية على الورق فقط، وشطب أسمها من السجلات الرسمية، بعد أن توفاها الله عمليا على الأرض، ولم يعد بالإمكان إخفاء موتها لوقت أطول.
لقد انتصرت حماس، وأسقطت على الساحة الفلسطينية الحقيقة لا الوهمية، بالضربة الصاعقة القاضية، جميع مناوئيها ومنافسيها. ومها تكن الأسباب التي دعت الفلسطينيين لاختيار حماس قائدا وممثلا لهم، فإن هذه الأسباب جزء لا يتجزأ من رفض الفلسطينيين للمنظمة، ولفتح، كبرى فصائلها وقائدها، ومحتكرة قراراتها. وهي تعني أيضا وبالخط العربي واللاتيني العريض أنها لم تعد تثق بها، وبأساليبها وسياساتها، وبرجالاتها وسلوكهم وتطلعاتهم ونواياهم.
من الطبيعي أن تعارض اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تشكيل حكومة فلسطينية بقيادة حماس، وتحاول جاهدة وضع العصي في دواليبها، وربما أكثر، لمنعها من ذلك. ولو لم تجد في برنامج حماس سببا لمعارضتها، لاختلقت أعذارا أخرى، ليس مستغربا أن يكون منها سمنة بعض رجال حماس، وطول لحاهم! فليس من السهل على رجالات المنظمة وأقربائهم ومواليهم الذين استقووا وتنعموا قرابة نصف قرن بالسلطة والنفوذ، واستمتعوا بخيراتها وهباتها وبركاتها، أن يفقدوا بين ليلة وضحاها، امتيازاتهم، وسلطانهم، وبقرتهم ودجاجتهم، وتُنشر في الصحف والإعلام ارتكاباتهم، وتحال إلى المحاكم ملفاتهم، وتُغلق في أنحاء العالم مكاتب المنظمة، وتنقطع رواتب وهبات موظفيهم (دبلوماسيهم) بعد أن تتوقف دول العالم عن الإغداق عليهم، وإعالتهم، فمن يدري ما سيحل بهم، وأين سيضعون بعدها أقدامهم.
لقد امتلكت حماس ثقة شعبها، ومن حقها أن تنال فرصتها، وتجرب حظها في الحكم، ومن حقها أن تضع موضع التطبيق برنامجها الذي انتخبت على أساسه، وأن تختبر مواءمته للواقع، وقدرتها على تصريف الأمور اليومية، ومعالجة القضايا الشائكة والمستعصية، فإما تثبت قدرتها على التوافق مع طموحات شعبها فيتمسك بها، وإما تثبت الأيام ضعفها وهشاشتها وفشلها، فتفقد ثقة الشعب بها، فيلفظها.
وعلى فتح ومنظمة التحرير، كي تكسب ثقة شعبها، أن تزيل هذه الغشاوة عن عينيها، وتنظر بأمانة وواقعية إلى نفسها، ورجالها، وحولها. وتعيد النظر في حساباتها وسلوك أعضائها، وتحاسب فاسديها ومفسديها، وتكشف عن بلاويهم وقصصهم ومسرحياتهم، بانتظار الجولة القادمة.
[email protected]
التعليقات