العنف قرين السلطة، إذ ليس هناك سلطة في التاريخ إلا ومارست قدرا من العنف، يكبر أو يصغر بحسب الظروف، لكن القاعدة الغالبة تقتضي أن لا تلجأ السلطة إلى الحل العنيف إلا إذا استوفت كافة الحلول الأخرى، من حوار وترغيب ومناورة سياسية، تماما كما تقتضي أن يسعى السلطان إلى اكتساب الأصدقاء ما أمكنه إلى ذلك، وأن لا يستعدي إلا من أراد من خصومه الإصرار على العداوة، والشعرة يجب أن تظل قائمة بين الحاكم ومحكوميه على الرأي معاوية بن أبي سفيان، إن هم شدوها أرخاها، وإن هم أرخوها قام بشدها.

استذكرت هذه القواعد في فن السياسة، وأنا بصدد التأمل في سيرة السلطة التونسية في تعاملها طيلة السنوات الخمسة عشرة الماضية، مع الشخصيات والنخب السياسية والفكرية، المعارضة لها أو المستقلة عنها، وهي سيرة أقرب إلى الولع بتأليف الأعداء منها إلى ربح الأصدقاء، وإلى المسارعة لاستعمال الوسائل الترهيبية قبل إعمال الوسائل الحوارية، وهو ما جعل دائرة الموالين تضيق مع الوقت، في مقابل اتساع دائرة المتحفظين والمنتقدين.

والمفارق في شأن سيرة الحكم التونسي، أنه ليس ثمة من منظور التحليل السياسي، دواع قوية و منطقية تدعو السلطة إلى التصرف بهذا الكم من العنف والردع واللامبالاة بالحوار السياسي، فمقارنة إنجازات النظام التونسي الاقتصادية والاجتماعية ndash; وبصرف النظر عن التقييم الكمي لها- قياسا إلى ما تحقق في جل الدول العربية ndash; خصوصا منها غير النفطية- يفترض أن تجعله في أريحية كبيرة إذا ما دخل في حوار مع أي طرف سياسي داخلي معارض، ناهيك إذا كان الحوار مع شخصيات مستقلة عرفت باعتدالها ووسطية توجهاتها السياسية والايديولوجية.

إن أي زائر لليمن أو مصر أو الجزائر أو المغرب أو السودان أو موريتانيا أو الأردن، سيلاحظ بلا شك أن الأوضاع التنموية في تونس هي الأفضل مقارنة بما عليه الأمر في البلدان المذكورة، وأن مستوى حياة البشر ومؤشرات النمو وتطورات البنيات التحتية، هي الأحسن في الحالة التونسية، منها في بقية الحالات العربية المشار إليها، غير أن المختلف المثير للدهشة والاستغراب، أن النظام التونسي لا يتصرف بانسجام مع انجازاته الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، وأن أنظمة الدول العربية المذكورة على الرغم من مواجهتها لمشاكل وتحديات اقتصادية واجتماعية أعوص، تتصرف بثقة في النفس وسعة صدر أكبر مع معارضيها ومنتقديها، قياسا إلى النظير التونسي.
لقد شاهدت شخصيا كيف تهاجم الصحف المصرية الرئيس المصري وعائلته بكل شراسة في صفحاتها الرئيسية، ناهيك عن التشهير بالوزراء والمحافظين ومسؤولي الحزب الحاكم، دون أن يقدم الرئيس مبارك أو نظامه على مصادرة جماعية لهذه الصحف، أو تشريد لأصحابها ومنعهم من مواصلة حملاتهم الهجومية على النظام والرئاسة، غير أن عدم الإقدام هذا لم يمنع الرئيس مبارك من الفوز بولاية رئاسية خامسة، والاستمرار على رأس حكم يقوده منذ ربع قرن، وذلك على الرغم من بؤس الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين المصريين، وأحسب شخصيا أن ليس ثمة ما يهدد الرئيس بن علي في سلطانه وسلطاته، لو أنه سمح لصحافة بلده بالهامش نفسه المسموح به للصحف المصرية.
وفي اليمن، أقدم الرئيس علي عبد الله صالح على العفو عن آلاف من مواطنيه، كانوا قد خاضوا حربا ضروسا ضده، قادت إلى قتل الآلاف وإلحاق التخريب والدمار بممتلكات عامة وخاصة قدرت قيمتها بمليارات الدولارات، بل إنه عفا عن قادتهم الكبار الستة عشرة الذين صدرتهم ضدهم أحكام بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، وأمر بتعويض الجميع ماديا ومعنويا، في حين ما يزال النظام التونسي مترددا في العفو عن بضع مئات من السجناء السياسيين، الثابت أنهم لم يشاركوا في حرب أهلية أو انفصالية، ولا شك أن بضعة أشهر أو سنوات في السجن، كانت كافية لدفعهم إلى مراجعة الكثير من قناعاتهم الفكرية والسياسية، والكف عن السير في أية مسارات غير شرعية.
وفي الجزائر، رفع المعارضون الإسلاميون السلاح في وجه النظام، وصعدوا إلى الجبال للانغماس في حرب مشبوهة قذرة أودت بحياة آلاف الأبرياء، من مدنيين وشيوخ وأطفال وعجز ونساء، في مجازر جماعية اقشعرت لها الأبدان، لكن النظام الجزائري ndash; هذا الذي قيل أن مجموعة من الجنرالات تقف على سدته- فرق منذ البداية بين الإسلاميين الذين يمكن إدماجهم في الحياة السياسية القانونية، والإسلاميين الذين ليس ثمة بد من إقصائهم، بل لقد سعى هذا النظام إلى استمالة جزء كبير من المتشددين أخيرا، في إطار ما سمي بقانون السلم والوئام المدني، بينما ما يزال الشقيق التونسي يصر على أن الإسلاميين جميعا ملة واحدة، وأنه ليس أمام غالبيتهم من خيار، إلا السجن أو المنفى.
وفي المغرب تبدو المعضلة الاقتصادية والاجتماعية كارثية، فنصف المغاربة أميون، وتسعون بالمائة من الثروة الوطنية المغربية في يد خمسة بالمائة من المغاربة، و مؤشرات التنمية الإنسانية غالبا ما تظهر مضطربة وسالبة، كما لا يظهر على الطبقة الغنية النافذة ما يوحي باستعدادها إلى تقديم أية تنازلات للطبقات الشعبية الواسعة المتضررة، وعلى الرغم من هذه الأوضاع البائسة، فإن النظام السياسي المغربي يتصرف بقدر كبير من الهدوء، ولم يتردد في إشراك كافة القوى السياسية، اليسارية واليمينية والإسلامية وممثلة المجموعات العرقية واللغوية، إشراكا حقيقيا في المؤسسات السلطوية على اختلاف درجاتها، ابتداء من البرلمان وانتهاء بالحكومة، بينما يلح النظام التونسي ndash; على الرغم من تواضع التحديات التنموية المطروحة عليه مقارنة بنظيره المغربي- على إتباع الأسلوب السياسي ذاته في التعامل مع قوى البلاد السياسية، على نحو أبقى مؤسسات السلطة على حالها، من حيث هيمنة الحزب الحاكم المطلق عليها، وتوزيع فتات الأطراف على بعض الأحزاب الصغيرة التي أسند إليها رسميا دور المعارضة.
وقد أخبرني أحد الأصدقاء مرة، أن تسعين بالمائة من معارضي النظام التونسي، يمكن إيجاد حلول معقولة للمشاكل العالقة معهم، تحافظ لهم على مصداقيتهم أمام أنفسهم وأمام الرأي العام، وتجنب السلطة عداوتهم، كما استغرب صديق آخر من سلوك السلطة التونسية التي تصر على النجاح الدائم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بنسبة التسعات الأربعة المعروفة، بينما يدرك العقلاء أن ستين في المائة حقيقية، قادرة على تمكين صاحبها من الحكم بأقل الأضرار الممكنة، وبأكثر مصداقية.
وقد هاتفني صديق ndash; وهو شخصية أكاديمية وسياسية تونسية محترمة- قبل أسابيع معلنا بالغ سروره وامتنانه للرئيس بن علي، إذ ظنه استجاب لدعوة كان وجهها له عبر مشاركته في أحد البرامج التلفزيونية، لإطلاق سراح السجناء السياسيين من خلال عفو رئاسي عام، وذلك عندما أقدم الرئيس التونسي على إخراج قرابة المائة من السجناء السياسيين التونسيين، غير أن هذا الصديق فوجئ أياما قليلة بعد صدور العفو، بحملة إعلامية حكومية عليه، تنعته بأبشع الصفات، وتتهمه بالاستقواء بالأجنبي على بلاد، وتشكك في سيرته ووطنيته، وهذا مثال من الأمثلة العديدة التي يخسر بها النظام التونسي عشرات من الشخصيات العلمية والأكاديمية والسياسية والثقافية، ويدفع بها مرغمة إلى صفوف المعارضة الراديكالية.
وخلاصة القول، أن من يجري تصويرهم على أنهم صقور المعارضة التونسية، يظهرون بالمقاييس العربية حمائم، وأنه لو أعمل النظام التونسي قليلا من الحوار والتسويات السياسية، لأراح نفسه من الكثير من الانتقادات الداخلية والخارجية إزاء سلوك غير مقبول في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، فتونس الخضراء هي بطبيعتها أرض حمائم لا صقور، وكان الأجدر ndash; ولا يزال- بأهل الحكم فيها، أن يجعلوا من الحل السياسي أصلا وسابقة، قبل أن يسارعوا إلى اتهام معارضيهم بالعمالة والخيانة والاستقواء بالأجنبي، وقد أوصدوا أمامهم كافة منافذ التعبير والتغيير الداخلي..إن الحوار دليل قوة لا ضعف، وهو ما يجب أنه يفهمه الحكم التونسي.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي ndash; لاهاي.