كنا في المدرسة المتوسطة ندرس مادة النصوص من إعداد طه حسين وآخرين، ودُرّس لنا نص للحجاج : يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، إني أري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ؛ هكذا علي ما اذكر. كنت في حيرة من المجرم الذي يشتم ويهدد بقطع الرؤوس؟ . كان ذلك في مرحلة الصبا. لكن بعد ذلك تحيرت؛ كيف يمكن لمفكر تنويري ndash; أو هكذا يقال ndash; ان يختار نصا كهذا وان يدرسه علي صبيان؟ .
لم اعرف الدافع حتى الساعة !!!.
في سبعينات القرن الماضي كنت في زيارة فضول لبغداد وقادما من الكويت، حضرت جلسة دُعي إليها بمناسبة حضوري، وكيل الوزارة عبد الوهاب البياتي الذي جاء في سيارة في المقعد الخلفي ولم ينزل حتى فتح له السائق باب السيارة. كنت نزيل فندق المنصور، لو لم تخن الذاكرة، حيث تجمع العراقيون حولي ليوكدوا اختلافهم ndash; رغم هيمنة نائب الرئيس علي الشارع ndash; وتباين مشاربهم؛ الشيعي والشيوعي والسني والقومي، واليساري الإسلامي واليمني المجوسي والمسيحي فقط، والكردي واليعربي والكلداني والأشوري .
وكنت قادما من بلد كل شيء فيه واحد؛ الله، الدين الإسلام، المذهب المالكي، والشعب الواحد، وكان هذا الاتفاق يشيع بيننا روح الخلاف فقط.
وكنت استغرب كيف يتمكن صدام من شعب كهذا؛ هويته الاختلاف.
و توكدت من ذلك؛ من الإصرار العراقي في المنافي علي هذا الاختلاف، ولهذا لم يدهشني تنوع المعارضة العراقية وتباينها، وتنوع وزخم ما يصدره العراقيون من صحف ومجلات ونشرات ومواقع الكترونية، وما يكتبون من نصوص شعرية تبدو كأنها مكتوبة لغرض لا غير؛ تثبيت الاختلاف. وكان تكاثر الشعراء العراقيين في الخارج - عندي أيضا - من باب تحقيق هذا الاختلاف.
ولما أُسقط صدام الواحد الأحد؛ منذ سنين ثلاث، وطلع الشعب باعتباره؛ شعوبا وقبائل وأحزابا وجماعات وتكتلات وطوائفا ومذاهبا، فإن هذا هو العراق أقدم ولايات متحدة في التاريخ.
وما عرفته من تباين واختلاف في هذا الشعب شدني منه المقدرة علي التعايش، وفي هذا بز غيره من الشعوب، وقد صادف أن التقيت فيما بعد عراقيي المهاجر، في ليبيا وغيرها ولم اعرف غير أنهم عراقيون في محنة واحدة، رغم أن حمى ووطيس النقاشات كانت تغرق هذه اللقاءات. وفي هذه المهاجر التقيت عراقيين نبلاء كما التقيت انتهازيين باعة كل شيء واللاشيء، لكن أهم سمة عامة أدهشتني؛ توكيد الجميع على عراقيتهم رغم الضيم الواقع علي بعضهم من هذا العراق.
ثم ككل العباد وغيرهم تابعت ما يحدث في العراق، بإرادتي أحيانا، وغصبا في الكثير من الأحيان فالقرار في يد السيدة الميديا، ، وهالني ما شاهدت وسمعت وقراءت.
لقد عشت أحداثا كثيرة، وسمعت عن غيرها في القرن الأخير، الذي كنت من مواليد نصفه الثاني،: من حرب فيتنام إلي حرب بيافرا، ثم الحروب الباكستانية الهندية والعربية الإسرائيلية، الثورة الجزائرية، الحروب الأهلية في لبنان ويوغسلافيا سابقا، وغيرها الكثير.
لكن لم أشاهد ما حدث في العراق؛ بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية أعظم قوة في التاريخ وصاحبة أكبر ترسانة سلاح ومعها حلفاء اللهم بارك، لم أشاهد البتة هذه المذبحة القائمة على الأشهاد، والتي تبدو وكأنها غنيمة غنمتها الميديا الجذلانة بذبح العراقيين، الميديا الناطقة بالعربية أو بغيرها.
مرت أعوام ثلاث وكل ما مر يوم زدت بلبلة- لاحظ معي أن هذه اللفظة مشتقة من العراق أيضا فلا شك أنك تعرف حضارة بابل وما بلبل البشر في لغتنا العربية على الأقل-، وكلما مرت ساعة وشاهدت العراق ازداد حيرة. خاصة إذا ما قبض على جنود بريطانيين أصلا وفصلا يهربون السلاح سرا، وتداهم قواتهم السجن كي تحررهم من الشرطة العراقية، التي مهمتها المحافظة على الأمن. وأنفجر حيرة أن هذا الحدث كأن لم يكن.
فأي عجب ما يحدث في العراق منذ أعوام ثلاث؛ تحت إشراف زعيمة العالم الحر وحلفائها والأمم المتحدة ومؤخرا الجامعة العربية.
وتضخ الميديا كل ساعة في ساعة من اليوم، وكل يوم من اليوم في الشهر، وكل شهر من الشهر في السنة، وكل السنة من السنوات الثلاث. وكلما تضخ معلومة ازداد جهلا ويغمض علي الأمر؛ فلا أعرف من يقتل من؟؟، ولماذا يقتل هذا هذا؟؟. حتى عندما أعود مرعوبا من المذياع وأستعين برامبو الذي يقتل في مشهد أمة، أجد أن رامبو يفعل ذلك من أجل عيون محبوبته الولايات المتحدة الأمريكية، فيزداد اللغز تلغزا، وان استعنت بصديق، ومنحني الله بصيرة فجعلت من بوش الابن صديقا ndash; كما كان بوش الأب فالصداقة تورث في عالمنا وليس الحكم فحسب- ، فبوش هذا أعني بوش الثاني يحل عقلي من عقله؛ ويجعله كرة، يضربه بهذه اليد تارة نحو سوريا، وتارة بتلك اليد نحو مضارب إيران. يدوخني ويعمي بصيرتي، بعد أن حل عقلي يصم أذاني، يرجف قلبي ما يحدث في العراق.
لقد ذهب صدام غير مأسوف عليه، لكن ما أحدثه في العراق وما زرعه يتم جنيه، بسماد مخصب ومن إنتاج أمريكي، وتحت إشراف دولي، وبرعاية من العالم الحر وغير الحر. ونحن نتابع فيلم رعب هوليودي؛ من إنتاج جيش الولايات المتحدة الأمريكية، واخرج بوش الثاني والمخرج المنفذ مانسفيلد؛ صديق صدام القديم الحريص علي العشرة.
والمشهد مستعاد؛ لقد جربت مؤسسات الحرب في الولايات المتحدة ذلك في أفغانستان، وطحنت هذه البلاد وقطرت روحها، تحت شعار الإسلام عدو الكفار والملاحدة، واليوم الإسلام دين الإرهاب.
ان الإدارة الأمريكية مسئولة علي ما يحدث في العراق، وقد يكون ما يحدث هناك تصفية حسابات معقدة، وأجندة أهم ما ظاهر منها هو الخفاء، فالمطلوب المزيد من الإبهام، المزيد من الفوضى، المزيد من الرعب، وأن هذه هي استحقاقات تلك الأجندة. فسياسة الأرض المحروقة اتبعتها الولايات المتحدة غالبا في حروبها، خاصة عندما حرثت الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي هكذا كانت ndash; دائما- تري أمريكا اللاتينية.
إنها فاتورة الديمقراطية الأمريكية، والتي والحق يقال لا مناص من دفعها في هذا العصر الأمريكي بكل استحقاق.