يظن الظانون أن إحدى المشاكل الكبرى لدى المجتمعات العربية تكمن في صياغة المفاهيم، التي تصاغ بنيّة بيضاء، وسماجة صفراء، ليُكتشف بعد فترة من السنين أن هذا المفهوم ينطوي على كثير من الفجاجة أو وفير من اللجاجة، أو كثير من إثارة الغبار والعجاجة!!! وما مفهوم quot;الصحوةquot; التي عمت بخرابها الأرض إلا واحد من هذه المفاهيم التي دبرت بليل أظلم!
وحتى لا نكرر الأخطاء، ونلقيها على التاريخ قائلين أن quot;التاريخ يكرر نفسهquot; أو نرميها على المفهوم قائلين أن مفردة quot;كذاquot; حمّلت ما لا تحتمل، وحتى لا نلدغ من الجُحر ذاته- عشرين مرة، يجب أن يدرس quot;المفهومquot; بوصفه منتجاً، ويحلّل في مختبرات الدرس اللغوي والحقل الإجتماعي، ثم يصدر للإستهلاك، لتتلقفه المجتمعات وهو يزهو بمعاير الإحكام، التي تساعد على بلورة الرؤية الإجتماعية وتسهم فيها أتم الإسهام!
والمتابع للشأن الإجتماعي، يلاحظ صعود مفردة التسامح، بوصفها مفهوماً يُسعى لترويجه في مفاصل المجتمع، وتوطينه في صحراء الشدة، وبيداء الغلظة، وقفار العبوس التي تطوّق ممرات الناس وسبل تعاملاتهم!
إن مشائخنا quot;مشائخ التفكيكquot; يؤكدون على أن كل مفهوم يحجب في داخله معنى مضاداً، ويسكت عن وجه آخر، ليظهر المفهوم المحجوب بعد أن يستقر المفهوم الأول، وليطل المفهوم الثاني بوجهه القبيح.. وما مفهوم التسامح إلا واحدة من هذه المفاهيم!
إن الجذر اللغوي لكلمة quot;سمحquot; يؤكد أن quot;التسامحquot; هو التساهل اللين واليسر، بمعنى أن التسامح هو نوع من التنازل، وكأنك تحصل على شيء ليس لك في الأساس، وإنما تُسومح معك وغُض التطرف عنك وصُبر عليك.. أي أنك أُعطيت شيئاً لم تكن تستحقه، وإنما كرم المسامِح- بكسر الميم- أوصله إليك!
والتسامح، يكون من الله جل وعز، لذا يُقال (سامحك الله) أي تجاوز وصفح عنك، ويُقال شريعة سمحة، لأنها قياساً على الشرائع السابقة جاءت مخففة وميسرة ومسهلة لكي لا تجعل للناس في الدين من حرج!
وفي الأثر quot;رحم الله امرىء سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترىquot; بمعنى أنه باع بأقل من الثمن المناسب!!!
ولا يعلم من أين أتى بوصف quot;السماحةquot; لفئة من الناس، أو لطائفة من أهل العلم، لأنهم وفق مقاييس اللغة، لم يأتوا بشيء من عنديتهم، ولم يقدّموا أي تنازل يستوجب وصفهم بالسماحة!
من هنا يجب تمحيص هذا المفهوم، حتى لا نكتشف بعد quot;عشرينquot; سنة بأنه يؤدي إلى التطرف، لأن التسامح يعني أن هناك طرفاً مُتنازلاً، وطرفاً آخر يستفيد من هذا التنازل، ومع الزمن قد ينفذ صبر المتسامِح، ويتمادى المتسامح معه، فيؤدي ذلك إلى الإشتباك.
إن التسامح- وفق ما تطرحه الخطابات المختلفة- يحضر بوصفه مفهوماً دينياً أخلاقياً يناقض مفهوم quot;التعدديةquot; ذلك أن quot;التسامح ينبني على عدم الإقرار بحقوق الآخر، ولا غرابة إن المتسامح معناه أن نتنازل للآخر عن حق ليس له، أو أن نتساهل معه عن خطأ ارتكبهquot;!
والتسامح قد يصلح بين متخاصمين أو متوترين أو متشاحنين، أو متصادمين، أو يسود في المجتمعات التي تبنى من خلال طبقيات متعددة، ولكنه لا يصلح بحال من الأحوال في quot;المجتمعات التي تحتوي على تعدديةquot;، أو تنادي بلغة الشراكة وتدعوا إلى مبدأ المساواة!
حسناً ما البديل، أين الحل، في ظن أهل التفكيك أن البديل هو مفهوم quot;الاعتراف المتبادلquot; وهذا يعني في أبسط دلالاته quot;الإقرار بكون الآخر مساوياً لنا في الحقوق، مع الإقرار بكونه مختلفاً ثقافياً أو سياسياً أو مهنياًquot;، هذا ما تنادي به مجتمعات الشراكة ومجموعات التعددية وفصائل التسوية!!!
إن من يشاهد تطبيقات التسامح في المجتمعات العربية يدرك أن فيها نوعاً من quot;التفضلquot; وضرباً من quot;التكرمquot; وقسماً من quot;غض البصرquot; وكل هذه الأشياء لا تعكس مجتمعاً متساوياً في الحقوق والواجبات، بل تدل على أن هناك من يملك حقيقة، يمارس أبوته بمعناها الشامل على quot;ولد مراهقquot; ثم التسامح معه لسبب من الأسباب!!!
ومثل هذه التسامحات ستصبح مع الأيام جزء من المشكلة لا جزء من الحل، كما تكشف ذلك الوقائع والفواجع التي تظهرها شاشة العالم!!!
- آخر تحديث :
التعليقات