نعيش اليوم حالة شبيهة بما قبل الثورة الفرنسية، وبالتحديد التوتر بين المفاهيم السياسية العملية لكل من الدولة والامة والمواطنة العالمية من جهة، والانتماء الوطني والحرية وحقوق الانسان من جهة اخرى، مما يتطلب اعادة النظر في العديد من مفاهيم الفلسفة السياسية وصولاً الى صوغ عقد اجتماعي جديد. فقد نشأ في القرن الثامن عشر، توتر بين مفهوم laquo;الدولةraquo; وraquo;الأمةraquo; من ناحية، وبين المثال الأعلى العام لحب الإنسانية والمواطنة العالمية من ناحية أخرى، إذ لاح لفلاسفة التنوير أنه قدر للأمة وللوطن أن يدخلا في كيان انسجام الأسرة البشرية ووحدتها.
وهكذا اجتمعت في روح ذلك العصر الذي أخذ يهوي مسرعاً نحو الثورة الكبرى - كما يقول هويزنجا - فكرتان حاولتا التصدر: الأخوة الإنسانية والميل القوي نحو كل شيء يتعلق بأرض المرء وشعبه، ثم جاءت الثورة الفرنسية فانحازت للوطن الأمة، إذ لم يحدث قط أن بلغ عاملا الوطن والأمة من النفوذ الشديد ما بلغا في السنوات بين 1789 ndash; 1796.
وعلى رغم أن الجمعية الوطنية الفرنسية جعلت همها الأول أن تصوغ laquo;إعلاناً لحقوق الإنسان والمواطنraquo;، بمعنى أن الإنسان يأتي أولاً على حين يتأخر المواطن، فإن المرء ما يكاد يشرع في صوغ حقوق الإنسان حتى يتجلى له أن الأمر يحتاج إلى laquo;الدولةraquo; لتصير إطاراً لمجتمعه. فكأن ليس من الممكن بداهة أن تتخذ الإنسانية مطية أو وسيلة تحمل عليها الحرية المرغوبة، إذ أن مقرها هو laquo;الوطنraquo; وموضوعها هو laquo;الشعبraquo;، من هنا يتبين laquo;أن الثورة الفرنسية قامت منذ البداية بتنشيط الوطنية والقوميةraquo;.
وتولى الفيلسوف الألماني laquo;هردرraquo; (1744 - 1803) تغذية فكرة laquo;الأمةraquo; وraquo;الوطنraquo;، وزود الناس بجميع عناصرها، كما أسهم أكثر من أي شخص آخر في تشكيل مفاهيم مثل laquo;الطابع القوميraquo; والروح القومية Volkstum ، على رغم أنه كان أبعد الناس عن التفكير على أساس الجنس والعنصر.
على أن زعيمي التفكير الاجتماعي في عصر الثورة الفرنسية كانا laquo;جان جاك روسوraquo; (1712 ndash; 1778) وraquo;مونتسكيوraquo;؛ الأول وضع laquo;البرنامجraquo; لإنشاء أي سياسة قومية حقيقية في رسالته laquo;تأملات حول الحكومة البولنديةraquo; عام 1772، وفيها اعتبر أن هدف القانون خلق روح شعبية ذات وعي قومي، وهدف التربية والتعليم المحافظة على الأخلاق والتقاليد القومية حية في قلوب الشعوب.
وفي كتابه الأشهر laquo;العقد الاجتماعيraquo; Contrat social ، وضع أساس نشوء المجتمع المدني في الدولة العلمانية الحديثة، وهو الأساس المنطقي لنشوء laquo;الدولةraquo; أوجان جاك روسو
هيئة quot;السيادةquot; بتعبير روسو. ففي العقد الاجتماعي يتنازل الأفراد عن بعض من حريتهم في سبيل نفعهم جميعاً: laquo;فغاية العقد الاجتماعي هي النفع العامraquo;. وبهذا العقد، بين أحرار متساوين، ينتقل الأفراد من الحق الطبيعي الذي قال به كل من laquo;هوبزraquo; وraquo;غروتيوسraquo;، منطلقين من عدم المساواة الطبيعية التي قال بها من قبل laquo;أرسطوraquo; وraquo;كاليغولاraquo;، إلى الحقوق المدنية والحقوق السياسية، وباختصار إلى المساواة السياسية.
لقد ذهب laquo;روسوraquo; إلى أن الاجتماع عموماً والاجتماع المدني خصوصاً من إنتاج البشر، والوعي والإرادة، من إنتاج التاريخ، بخلاف أرسطو الذي وصف الإنسان بأنه laquo;حيوان اجتماعيraquo; أو اجتماعي بطبعه مما يوحي بأن المجتمع من إنتاج الطبيعة. وبموجب laquo;العقد الاجتماعيraquo; عند روسو، وبناء على شروطه، يدخل كل شريك (أي كل مواطن) في علاقة مزدوجة: علاقة مع الأفراد الآخرين تتعين بموجبها الحقوق المدنية، وعلاقة مع هيئة السيادة نفسها (الدولة)، تتحدد بموجبها الحقوق السياسية، وتفرض هذه العلاقة المزدوجة التزامات متبادلة.
إن الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية أوجد في الإنسان تبدلاً ملحوظاً: إذ أحل في سلوكه العدل محل الوهم الفطري، وأكسب أفعاله أدباً كان يعوزها من قبلhellip; وباختصار، فإن ما يفقده الإنسان بـraquo;العقد الاجتماعيraquo; هو حريته الطبيعية والحق غير المحدود الذي كان له على كل ما يستهويه ويهواه، وأما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية جميع ما يقتنيه. (فالباعث المندفع من الشهية وحدها هو laquo;عبوديةraquo;؛ والطاعة للقانون الذي فرضناه على أنفسنا هي laquo;حريةraquo;).
إن الميثاق الأساس في أي نظام اجتماعي لا يقضي على المساواة الطبيعية بل انه على العكس يقيم مساواة معنوية وشرعية لما استطاعت البيئة الطبيعية أن توجده من تفاوت بين الناس، فيصبحون كلهم متساوين بالعهد الذي عقد في ما بينهم، وبحكم القانون، ولو أن بينهم تفاوتاً في القوة أو في الذكاء وتفوق المواهب. أما laquo;مونتسكيوraquo; (1689 ndash; 1755) فقد عالج موضوع laquo;المواطنةraquo; ومفهوم laquo;الوطنيةraquo; بالتفصيل وذلك في كتابه laquo;روح القوانينraquo; أو الشرائع - Esprit des Lois وسمى حب الوطن والمساواة الفضيلة السياسية.
إن مفهوم الوطن يقترن عنده بمفهوم المساواة، المساواة في الحقوق، والمساواة أمام القانون، أو قل laquo;المساواة السياسيةraquo;، ولذلك كان حب الوطن أو حب المساواة فضيلة سياسية. أي أن المساواة السياسية بهذا المعنى مقدمة لازمة وشرط ضروري للمساواة الاجتماعية.
لقد جعل laquo;الوطنيةraquo; صفة للدولة وتحديداً ذاتياً لمواطنيها، وهي على الصعيد القانوني ترادف laquo;الجنسيةraquo; Nationality ، وبحسب الفيلسوفة الالمانية المعاصرة laquo;هاناه أرندتraquo; (1906 ndash; 1975) فإن الجنسية هي laquo;الحق في أن يكون لك حقوقraquo; إذ ان جميع من يحملون جنسية دولة معينة هم مواطنوها، بغض النظر عن انتماءاتهم الاثنية أو اللغوية أو الثقافية أو الدينية أو المذهبية، وبصرف النــظر عن اتجاهاتهم وميولهم الفكرية والأيديولوجية والسياســية.
ويمكن القول ان الوطـــنية هي التحـــديد الأخير لمواطن دولة ما، وهو تـــحديد لا ينـــفي أو يلغي عن هذا المواطـــن انتماءه الاثنـــي أو اللغوي أو الديني أو المذهبيhellip; ولكـــنه ينفي أن يكـــون هذا الانتماء laquo;ما قبل الوطنيraquo; هو ما يحدد علاقته بالدولة، ويعين من ثم حقوقه التي هي واجبات الدولة، وواجباته بما هي حقوق الدولة وحقوق المجتمع.
غير أن هذه laquo;الدولةraquo; لم تعد - بفعل الضغوط المتزايدة والمتسارعة للعولمة - كياناً يستنفر الخضوع والتضحية أو قل الانتماء، كما ذهب كل من روسو ومونتسكيو وكتيبة الفلاسفة الاجتماعيين، وإنما أصبحت مكاناً للتفاوض المستمر، حيث يقيس كل شخص بصورة حادة ودائمة ما يقدمه للدولة وما يحصل عليه منها.
الأخطر من ذلك هو انتعاش الانتماء laquo;ما قبل الوطنيraquo; لبعض القوى الاجتماعية من جهة، بالتزامن مع انتشار روح السلبية واللامبالاة للغالبية الصامتة من جهة أخرى، وهو ما أصبح يهدد كيان الدولة الوطنية أو القومية في الصميم.
بيد ان المشكلة ليست في غياب الحرية ذاتها وإنما في غياب الفاعلية والجدية في ممارستها، فضلاً عن الحذر في التجاوب مع المتغيرات الداخلية والخارجية. ان ما يجعل الناس يتصرفون ككائنات حرة - وفقاً لكانط - ليس تمتعهم بالحرية التي لا تتقيد بأي قيد، بل ان ما يجعل العقل يتصف بالحرية ليس خلوه من الدافع، انما طابع هذه الدوافع، فالحرية مساوية للاستقلال الذاتي، وهي لا تعني اللاحتمية وإنما تعني نوعاً خاصاً من الحتمية، هو عدم فرض القانون الذي نتبعه في أفعالنا من الخارج، فالذات الاخلاقية هي التي تصنع القانون لذاتها.
ومع ذلك، يجب الحذر من اساءة فهم اساسية، وهي ان الحرية الاخلاقية ليست حقيقة ولكنها مسلّمة، انها ليست موهبة أُنعم بها على البشر، ولكنها بالأحرى واجب، وهو أصعب واجب يستطيع اي انسان ان يقوم به، فهو ليس من المعطيات وانما هو مطلب وأمر أخلاقي جازم، وتزداد بوجه خاص صعوبة تحقيق هذا المطلب في أوقات الازمات الحقيقية، ففي هذه الاوقات يتجه الفرد الى عدم الوثوق في قدراته.
باختصار، إن الحرية ليست ملكة موروثة عند الانسان، واذا أردنا التمتع بها علينا ان نوجدها، ولو ترك الانسان ليتّبع غرائزه الطبيعية، فانه لن يكافح من اجل الحرية، بل لعله يختار حينئذ التبعية.
فالاعتماد على الآخرين في التفكير والحكم والتصميم أهون من الاعتماد علي النفس، وهذا يفسر لماذا كثيراً ما ينظر الى الحرية في حياة الافراد والحياة السياسية على انها عبء اكثر منها امتيازاً، بل ان الانسان يحاول ان يتخفف من هذا العبء في الظروف البالغة الشدة.
التعليقات