شهد العالم منظراً رائعاً عندما خرج الإسبان بالملايين بعد العمل الإجرامي الإرهابي الذي إرتكبه ناكري الجميل من المتأسلمين بتفجيرعدد من وسائط النقل في مدريد سنة 2004 ذهب ضحيتها أكثر من مائتي قتيل وأكثر من ألفي جريح. خرج الإسبان بعفوية كاملة يرفعون الشموع ويرددون ترانيم المحبة والسلام. لم ينتظر الإسبان أن يخرج عليهم قسيساً أو كاردينالاً لكي يفتي لهم بما يجب أن يفعلونه بل هم مارسوا حقهم في توكيد إنسانيتهم وإعلان رفضهم المطلق الخضوع لمنطق وممارسات الأوباش القادمين من الجنوب. و في نفس الوقت لم يستسلم الأسبان الى نزعات الإنتقام من الجالية الإسلامية في ذلك البلد مع إن هذه الجالية كانت دون شك الحاضنة والمفرّخة لأؤلئك المجرمين.
لنتخيل للحظة لو إنعكست الآية وإن هناك مجموعة من المهاجرين الأجانب (لنقل إنهم من المسيحيين أو الهندوس) في بلد عربي ما قرروا لسبب ما أن يرتكبوا جريمة قتل جماعية وعشوائية في قلب عاصمة ذلك البلد ما الذي سيكون مصير هذه الجالية؟ سأترك الجواب لخيال القاريء الكريم . لكن الجواب على هذا السؤال الإفتراضي سيعطينا فكرة بسيطة عن مدى الإنحطاط الأخلاقي الذي أصاب الشعوب العربية والإسلامية مقارنة بمثيلاتها الغربية. ولكن هذا ليس موضوعي هنا بل أريد أن أتطرق الى موضوع آخر.
إن الذي فعله الإسبان يوم خرجوا بالملايين هو إعلان تضامنهم مع بعضهم البعض وإعلان أن كل مواطن أسباني أو مستوطن أجنبي في الأراضي الإسبانية له حقوق لن يسمحوا لأي كان المساس بها وإن الشعب الإسباني برمته هو من يضمن أن هذه الحقوق لن تمس. كذلك كان خروجهم هو إعلان بإن الإرهابيين وحدهم هم المسئولين عما حدث وليس الجالية التي ينتمون اليها. و سؤالي هنا هو هل في مقدور الشعوب العربية وخصوصا تلك المبتلية بهيمنة الإسلام السياسي أن تعلن تضامناً إنسانياً كهذا؟
لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نسترجع ردود الأفعال الشعبية على الأعمال الإرهابية في عدد من البلدان العربية . و سنلاحظ أن بإستثاء ماحدث من تظاهر عفوي في بيروت بعد إغتيال الحريري فإن أبشع الأعمال الإرهابية قد وقعت والتي راح ضحيتها آلاف القتلى دون أن تجد شعوب هذه البلدان وسيلة للتعبير عن موقف إنساني تضامني مشترك يعزل الإرهابيين المسئولين عن هذه الأعمال الإجرامية عن بقية قطاعات الشعب ويشخص هذه الفئة كعدوة للجميع.
والسؤال هنا لماذا لا نرى علامات الغضب والإستنكار الشعبي والمظاهرات المليونية في شوارع العواصم العربية للتعبير عن رفضهم القاطع للقتل العشوائي الذي يمارسه الإرهابيون في بلداننا أو في أي مكان آخر من العالم؟ لماذا هذا التشوش الفكري والتردد في إتخاذ موقف أخلاقي واضح ضد المسئولين عن قتل العشرات أو حتى المئات من الأبرياء؟
السبب هو أن الإرهاب الذي ضرب أسبانيا و غيرها من بلدان الغرب كان إرهاباَ مستورداَ نشأ في بيئة أخرى. فعندما حدث في عقر دارهم أخذهم على حين غرة و كان عصيّا على الفهم ولذا لم يجدوا صعوبة في رفضه رفضاَ كاملاً. ولكن الحال ليس كذلك في بلداننا. فإن الفكر الذي أنجب هذا الإرهاب مستنبط من أفكار ومفاهيم معروفة لدينا قد قرأناها وسمعناها منذ نعومة أظفارنا. فالذي فعله منظري الإرهاب هو إنهم طبقوا في الواقع العملي ما كان يكتب ويقرأ ويقال. ذلك الذي إعتبرناه تأريخاً قديماَ مضى وانقضى قد أعاده للحياة أوباش بن لادن والزرقاوي مستخدمين اللغة والتعابير التي طالما قرأناها وسمعناها في مدارسنا وإذاعاتنا. لذا فإن المواطن العربي العادي لايدري هل يستنكر هذه الأعمال أم يؤيدها، ولا يعرف هل منفذيها أبطال أم مجرمون؟
لذا نجد البلدان الوحيدة التي لم تشهد خروج الجموع المليونية لإعلان براءتها من هذه العمليات هي ذاتها المبتلية به وهي نفسها التي تنتجه وتفرّخه.
وفي الوقت الذي لا يتوانى علماء الدين لدينا من أن يفتوا بتكفيرأي مسلم قد يجهر براي مختلف في جانب من جوانب الطقوس أو التعاليم الأسلامية فمن المعروف أن أغلب علماء السنة قد رفضوا أي محاولة لتكفير بن لادن أو الزرقاوي.
ولكي يزيدوا الطين بلة فإن أعداداَ هائلة من الكتاب والمثقفين ورجال الدين يروجون نظريات تدعي بإن الذي يحدث ما هي الا مؤامرة ينفذها أعداء الأمة (الصهاينة، الصليبيون..الخ).
وهنا أود أن أتوقف قليلاَ عند هذه الظاهرة التي أعتبرها أشد فتكاَ من القنابل والمفخخات الا وهي إلقاء مسئولية العنف الإرهابي على الغير. إن هذه الظاهرة المتفشية عند العرب عموماَ لها عدة جوانب. فمن جانب يلقي هؤلاء المنظرون بالمسئولية على أعداء الأمة في كافة هذه الأعمال ويبرئون الفكر العربي والإسلامي من أية علاقة بها ومن جانب آخر يظهرون إرتياحهم وفي بعض الأحيان تأييدهم وسرورهم بهذه العمليات خصوصاَ عندما تحدث في بلدان الغرب. كيف نوفق بين هذين الموقفين المتناقضين؟ فإذا كانت هذه الأعمال مخطط لها من قبل الصهيونية والإمبريالية لتحقيق مصالحها (وبالضد من مصالحنا) فلماذا هذا الإرتياح والسرور الغامر لحدوثها؟ على سبيل المثال هناك من يصر على أن أحداث الحادي عشر من أيلول هي عملية قامت بها الموساد التي هي عدوة العرب والمسلمين وفي نفس الوقت يعبرون عن سرورهم من أن هذه العملية قد لقنت أمريكا درساَ لاينسى. والسؤال هو من لقن من؟ هل أمريكا لقنت نفسها درساَ؟ وإذا كان الأمر كذلك ماالذي يجعلهم يفرحون بنجاح عملية تنفع الأعداء وتضرنا (إذا كانوا صادقين فعلاَ).
كذلك فإن هؤلاء المنظرين الأفذاذ يتجنبون الإعتراف بإن لدينا في العالم العربي كم هائل من الأدبيات التي تنظّر للعنف وتبرر العنف العشوائي ضد المدنيين.
وهناك جانب آخر من التشوش الفكري المستفحل عند العرب وهو عدم القدرة على تحديد المسئولية عن عمل ما حتى عندما نعرف الجهة (أو الشخص) الذي نفذه. فعلى سبيل المثال في العراق هناك الآن عنف طائفي مستفحل يقتل فيه السني في المناطق الشيعية والشيعي في المناطق السنية. لكن عندما تسأل من المسئول عن كل هذا يشيرون بالبنان الى الأمريكان أو الصهاينة باعتبار أن هؤلاء قد تمكنوا من التلاعب بعواطفنا ومن اللعب على الوتر الطائفي ولذا فهم المسئولون عما يحدث من قتل شنيع حتى وإن حصل هذا بأيدي عراقية ومن قبل جماعات تعلن جهاراَ عن فكرها الإجرامي. فهل يستقيم هذا المنطق؟ وحتى لو إفترضنا جدلاَ أن هنالك جهات تريد إشعال فتنة طائفية فهل تصبح هذه الجهات مسئولة عن الأعمال الإجرامية التي يقوم بها العراقيون ضد بعضهم البعض؟ وكأن العرب أو المسلمين هم مجموعة من الأطفال القاصرين لا يمكن محاسبتهم عما يفعلون؟
إن هذه الأنماط من التفكير التآمري لا يؤدي الى تشوش في التفكير فحسب وإنما الى تبرئة المذنب والى خلق الأجواء الإجتماعية الملائمة لنمو الإرهاب بشتى أشكاله دون أن يعي الكثيرون إن ما يمارسونه هو الإجرام بعينه وذلك لكون أن الجوقة المنظرة للإرهاب من إعلاميين ورجال دين وأشباه مثقفين يوفرون للإرهابيين المبررات الجاهزة ويضعون المسئولية بإستمرار على الآخر. لذا فإن مصدر الإرهاب الحقيقي هو ليس في خلايا ومجاميع الشباب المضلّل الذي يعتقد أنه يدافع عن مصالح الأمة بل هو في الأبواق المنظرة له وتلك التي تنشر النظريات الكاذبة التي تجرم الغير وتبريء المجرمين.
- آخر تحديث :
التعليقات