لا أعرف إلى أين ستأخذنا نزعات التطرف العدمي. ولا أعرف شعباً عانى من التطرف مثلما عانينا نحن الفلسطينيين، سواء من التطرف الإسرائيلي وهو فعل، أو من تطرفنا وهو ردّ فعل.
بالأمس، طالبَ أسامة حمدان، ممثل حماس في بيروت، وأيضاً سامي أبو زهري، الناطق باسم الحركة، بأن يقدّم أبو مازن، اعتذاره إلى الشعب الفلسطيني، على لقائه بإيهود أولمرت في البتراء، وعلى تصريحاته بخصوص العمليات الانتحارية، التي أدانها الرئيس ووصفها بـquot;جرائم حرب ضد الإنسانية quot;.
ضربة فرشاة أخرى في اللوحة السريالية : اللوحة التي امتلأت عن آخرها، بضربات من هذا النوع. ماذا يريد السيدان أسامة حمدان وأبو زهري؟ أن يجلس الفلسطينيون مع قادة العالم العربي والإسلامي فقط؟ وأن يدبّجوا القصائد في امتداح تلك العمليات فقط؟ لقد فعلوا، وها هي النتيجة : لم يزُل الاحتلال، ولم ينفك الحصار، ولم يتحقق ولو انفراج صغير في المشهد المأسوي القاتم. بل حدث العكس تماماً، وما أفظع هذه ال quot; تماماً quot; لو يعرف القريبون والبعيدون! ذلك أن خيوط المشهد كلها في يد أمريكا وإسرائيل. والعرب والمسلمون فقط هم هوامش على المتن الأمريكي والإسرائيلي. هذه هي الحقيقة بألف لام التعريف. حقيقة يعيها العقلاء في أربعة أصقاع المعمورة، وتعيها الغالبية الصامتة من شعبنا. ولذلك، فهي تريد من يأتي ويحاول اختراق الدائرة الطباشيرية المغلقة، التي تضيق يوماً بعد يوم على العصب الحيّ من الرقبة. وأبو مازن، كرئيس لكل الفلسطينيين، يحاول جاهداً، وبكل ما أوتي من قوة، أن يفتح كوة في الجدار. فهل من المنطق، وفوق ذلك، هل من العدل، أن يطالبه بعضنا بالاعتذار، وكأنه ارتكب خطيئة سياسية ووطنية من العيار الثقيل؟ حقاً إننا لا نفهم! وحقاً إننا لمندهشون من تصريح كهذا، يصدر عن رجال، كما يبدو، أيديهم في الماء، ولو عاش أحدهم بيننا!
إن مشكلة حماس، قادة وقواعد، من ضمن مشاكلها الأخرى، أنها تعيش في زمان آخر هو بالتأكيد غير زمان الناس هذا. مشكلتها أن قادتها لا يختلفون عن قواعدها، نظرةً إلى العالم والواقع، وفهماً لهما، كما تنبغي الحدود الدنيا للفهم. كذلك فإن من مشاكلها أيضاً، هذا الخطاب المزدوج، وكأنه يدخل في نصاب الاستراتيجية لا التكتيك. وكم قيل لها بأن ذلك لا ينفعها، ولا ينفع الشعب الفلسطيني بالنتيجة. لكنها تصرّ - وكلما خرجَ إسماعيل هنية بتصريحات عقلانية وواقعية بدرجة المعقول والمقبول - على تصدير تصريحات أخرى، لقادة في الحركة، وكأنها تنفي ما يقول الرجل من الأساس والجذور. بما يعني، أن ثمة تيارين في حماس لا تياراً واحداً. تيار الخارج المتشدد عموماً، وعلى رأسه خالد مشعل والزهار وسعيد صيام، وتيار الداخل الواقعي نوعاً، وعلى رأسه إسماعيل هنية رئيس الوزراء.
والمتابع للتصريحات التي تصدر عن التيارين، يمكنه العثور ببساطة، على الكثير من التناقضات وحتى المفارقات بينهما. بما لا يخدم أبداً، المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وبما لا يخدم حتى المصالح الحقيقية بعيدة المدى لحركة حماس.
يستطيع أسامة حمدان وأبو زهري قول ما يشاءان. يستطيعان أن يكونا نجمي فضائيات من الوزن المتوسط وحتى الثقيل. هذا شأنهما. أما شأننا نحن، فمختلف بالضرورة، وباللزوم. فنحن نريد إزالة الاحتلال الغاشم. نريد تفكيك الحصار. نريد الخروج من عنق الزجاجة. نريد الحياة البسيطة الطبيعية بعد ستة عقود من الحياة الأشبه بالموت. كما نريد حلاً معقولاً مقبولاً للمأساة التي طالت حد الجنون والعبث. نريد من يساعدنا في رفع قدر العذاب الأبدي والدم عن كواهلنا. نريد قادة يحسّون بنا، ويقدّرون ما نرى كل يوم من مهانات ومن أهوال. ففي الأخير، نحن لسنا أبطالاً في مسرحية إغريقية، ولا نريد لشعبنا هذا المجد المجاني!

أما الحديث بإغواء الحنجرة الغليظة، فلقد جرّبناه على مدى عقود، ولقد أخذنا، فحسب، إلى فم الوحش.
إن مشكلة الشعب الفلسطيني الأولى، ومنذ بدء الصراع الدموي مع إسرائيل، وحتى قبل ذلك التاريخ، هي في عدم وجود قادة أكفاء له. قادة بمستوى تضحياته الكبرى، وأحلامه الكبرى البسيطة أيضاً. واليوم، لدينا واحد غير ما عرفنا وعهدنا : واحد من هؤلاء الذين يعرفون بالضبط، أين هم، وما هو وزنهم الحقيقي في ميزان العالم. رجل بلا أوهام أيديولوجيا، وبلا نرجسيتها بالأخصّ.
وإذا كان الشعب الفلسطيني، أو جزء كبير منه، ليس مع توجهات الرجل، ولا يعرف قيمته الحقيقية والوطنية بعد، كرجل دولة ورجل قيادة، فإن ذلك لا يعني البتة، أن أبو مازن مخطىء. بل يعني العكس تماماً : إنه يرى أبعد مما يرى الآخرون. سواء أكان هؤلاء هم الغالبية ذاتها، أم كانوا قادة لها.
إن ميزة رجل الدولة الفارقة، ألا يمالىء الناس البسطاء وعياً. أن يتخذ القرار الصائب في الوقت المناسب، حتى لو بدا هذا القرار صعباً وملتبساً بل صادماً ومجافياً لأنماط وعي وعاطفة وسلوك القطيع.
ميزة رجل الدولة، أن يكون عقلانياً، أقصى حدود العقلانية، وبالذات، إذا فقد جزء كبير أو صغير من شعبه، لألف سبب وسبب، عقلانيتهم. فالعقلانية خياراً، أرحم مليون مرة، من لعنة الهياج البلاغي الحنجوري. والهياج الحنجوري، كما علّمنا التاريخ، هو ما يريده بالضبط، عدونا في لحظة أو حقبة ما من تاريخ الصراع. والهياج البلاغي، الذي يأخذ أسامة حمدان ومن هم على غراره الآنَ، أخذَنا ماضياً وسيأخذنا مستقبلاً إلى عنوان واحد هو : فم الكارثة. فمن يريد لنا هذا المآل الأقسى، وبالذات إذا كان منّا ويزعم حبنا؟!