بين الهيمنة التركية والإبتزاز الإيراني؟

إقدام حكومة كردستان العراق على إقرار قانون الإستثمار الأجنبي في الإقليم الكردي يضع على المحك تحديات مستقبلية مصيرية، ويفتح أبوابا جديدة من شأن تفعيلها أن تغير نمط البناء وإتجاهات الأحداث وتطوراتها، والحقيقة أننا لم نفاجأ بخطوات الحكومة الكردية، فالقيادة الكردية قد علمتنا على حقيقة أن الأمل في إنبعاثة عراقية حضارية تنطلق من كردستان تحديدا فمنها وفيها وحولها دارت مشاكل عديدة في التاريخ العراقي المعاصر، وفيها تجسدت أكثر المعاناة الشعبية وتكشفت حقيقة الفاشية البعثية الشوفينية البائدة الحاقدة التي جعلت من أخوتنا الأكراد مشروعا دائما للتصفية والإضطهاد والتطهير العرقي والقومي والتي لم تستطع رغم شراستها ووحشيتها أن تفك عرى التلاحم النضالي والروحي والإنساني بين العرب والأكراد في العراق الفيدرالي الحر الموحد الذي نتأمل إنبعاثه رغم أطنان المصائب والمصاعب والتحديات.
ففي الوقت الذي فشلت فيه الأحزاب السياسية العراقية العربية في الوسط والجنوب في الوصول لحالة توافقية تحفظ الوحدة الوطنية وتحقق آمال الشعب العراقي في الرخاء والتنمية والتقدم والبناء وإعادة الإعمار، وفي الحين الذي وصلت فيه الأوضاع للحضيض في الوسط والجنوب بسبب الصراعات الطائفية والجيوش والميليشيات الحزبية والطائفية التي أعادت أيام وذكريات معارك الجمل وصفين وحروب الخوارج!! وفي الوقت الذي تسيدت فيه ساحة الفكر السياسي الأفكار الغيبية والخرافية والدينية الموغلة في تعصبها وتطرفها، يخوض الأكراد تجربة مختلفة بالمرة رغم جوانب القصور في تلك التجربة والتي لا يخفيها الأكراد أو يتستروا عليها، هذه التجربة تتمثل في البناء وتعويض سنوات التخلف والحروب المريعة وحقب التشرد المأساوية، ففي كردستان اليوم حالة من الأمن والأمان والإستقرار تختلف بالكامل عن بقية مناطق العراق المتوترة الممزقة رغم محاولات القوى المتطرفة تعكير أجواء الإستقرار بين الفينة والأخرى إلا أن تماسك الجبهة الكردستانية الداخلية لا يفسح أي مجال لقوى الإرهاب الديني لأن تضرب ضربتها أو تحقق أهدافها التخريبية المعلنة والمعروفة، فالمخاطر الستراتيجية الموجهة ضد كردستان منشأها خارجي بحت أي من دول الجوار التي تتحين الفرص وتراقب الموقف الكردي بعيون مفتوحة وقلوب حاقدة ووفق مخططات إستخبارية خبيثة لا تخطيء العين الخبيرة قراءة دلالاتها ومغزاها، وسياسة البناء الشامل التي إضطلعت حكومة الرئيس مسعود البارزاني بها تتطلب بطبيعة الحال مقاربات وإجراءات فاعلة عديدة لعل أهمها فتح الإقليم لأبواب الإستثمار الخارجي والذي هو في حقيقة الأمر قائم منذ زمن ولكن من أطراف إقليمية لها خططها وأساليبها ومخططاتها المستقبلية، فالإحصاءات التي بين أيادي حكومة كردستان تقول بأن ماهو مستثمر حاليا من مشاريع في كردستان العراق تكون نسبته على الشاكلة التالية :
90% إستثمارات تعود ملكيتها لشركات تركية!!!!.
7% تعود لشركات ومصالح إيرانية!!!.
3% لشركات عالمية تمتلك تكنولوجيا المعلومات والبحث مثل الشركة النرويجية التي تنقب عن النفط في السليمانية أو في مناطق كردستان الأخرى ؟.
وكما تلاحظون فإن هنالك غيابا مريعا لرؤوس الأموال العربية والخليجية منها على وجه التحديد، وهو ما يشكل حالة خلل ونقص ونكوص ستراتيجية لأن مصالح أكراد العراق مع دول الخليج هي أكثر من ضرورية ولأسباب سياسية وستراتيجية محضة معروفة ومشخصة وحيث تحرص الدوائر الحاكمة في أنقرة أو طهران على الإستفراد بالأكراد ومحاولة عزلهم عن المحيط العربي المجاور والواسع والمرتبط تاريخيا وإنسانيا، فما بين الشعبين الكردي والعربي من أواصر التقارب والمصالح المشتركة أكبر بكثير من كل الشوائب وحملات الشكوك التي طبعت العلاقة بين الشعبين خلال العقود الأخيرة.
وهذه النقطة تحديدا كانت في عقل الرئيس الكردي السيد مسعود البارزاني خلال زيارته الأخيرة لدولة الكويت منذ أسابيع قليلة مضت، فخلال محادثاته مع أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد تم التطرق لقضية إستثمار رؤوس الأموال الكويتية في كردستان العراق وقد رحب الجانب الكويتي كالعادة بهذه المبادرة وإقترح أمير الكويت على الرئيس مسعود بارزاني أن يثار الأمر مع غرفة تجارة وصناعة الكويت وهو ما حدث لاحقا بالفعل وحيث أعرب عشرين مستثمرا كويتيا عن رغبتهم بزيارة كردستان والإطلاع على الأوضاع الميدانية هناك و قراءة فرص الإستثمار ودراسة الجدوى إلى أن تدخلت الأطراف الإقليمية المعروفة وتحركت القوات التركية والإيرانية لتدخل بعض مناطق كردستان تحت راية الذريعة المعروفة وهي ملاحقة عناصر (حزب العمال الكردي التركي) أو متابعة الجماعات الإرهابية !! وهي أمور تعترض عمليات تدفق رؤوس الأموال، فرأس المال كما نعلم بحاجة لسلسة من الضمانات من أجل تأمين تدفقه، وهذه الضمانات هي سياسية وأمنية وقانونية (توفرت أخيرا عبر قانون الإستثمار) ولكن من يضمن الضمانات السياسية والأمنية التي تبقى ورقة إبتزاز مشهرة بيد الأتراك والإيرانيين على حد سواء، فكلنا نعلم أن تواضع الإستثمارات الإيرانية في كردستان (7%) تعوضها عمليا الهيمنة الإيرانية المطلقة على الإستثمار في الجنوب الذي بات ملعبا إيرانيا واسعا لدرجة أن بعض المحافظين للمحافظات الجنوبية للعراق يبررون تدفق رأس المال الإيراني بكونه شجاعة إيرانية في الإستثمار في الأسواق العراقية!! ولكنهم يغضون الطرف عن حقيقة أن رأس المال الإيراني ليس شجاعا بل لكونه يحظى بحماية (إطلاعات) وقوات الحرس الثوري والميليشيات الطائفية العميلة للنظام الإيراني التي توفر الحماية والملاذ الآمن لفرص الإستثمار الإيرانية المخلوطة بأهداف سياسية وطائفية واضحة المعالم، فيما لا يحظى رأس المال الخليجي الأقرب للعراق والخالي من أية أهداف أو مطامع سياسية أو مخططات إستخبارية بأية ضمانات للحماية، وهي قضية في منتهى الخطورة على مستقبل العراق والمنطقة، ونتأمل من القيادة الكردية أن تنجح في كسر إحتكار وهيمنة الأتراك والإيرانيون وتوفر الفرص المناسبة لتدفق رأس المال الخليجي والذي سيساهم في إحداث نقلة حضارية وإقتصادية كبرى في كردستان قد تعم فوائدها الجمة على العراق بأسره... المهمة صعبة ومعقدة ولكنها ليست مستحيلة، وقد أثبت الإخوة الأكراد أنهم أهلا للمهام الجسام.

[email protected]