الأخبار الّتي تنشر في الصحافة، وإنْ تراءت للبعض بأنّها أخبار تقريريّة تُزوّد القارئ بالمعلومات، لا تتّسم بالبراءة الصحفيّة كما قد يتوهّم القارئ السّاذج. هذه الحالة في صياغة الخبر الصحفي تسري على مجمل الصحافة في العالم وبدرجة تفاوت مختلفة من الرصانة الصحفيّة الّتي تفرق بين الخبر وإيصال المعلومة للقرّاء وبين الرأي الّذي هو شيء آخر مختلف.

وعلى العموم، ولظروف لها علاقة بطبيعة الأنظمة وحضارة الشّعوب، فإنّ الصّحافة العربيّة قد تكون أسوأ هذه الصّحافات على الإطلاق. فهل يستطيع القارئ العربي مثلاً أن يثق بما يُنشر في الصّحافة السّوريّة، وهي صحافة رسميّة وبوق لنظام البعث؟ أو هل يمكن أن يثق بصحافة البعث العراقي المندثر حينما كان هذا منيخًا كلكله على صدور الشعب العراقي؟ وهل يمكن أن يثق القارئ بصحافة رسميّة يتمّ تعيين رؤساء تحريرها من قبل رأس النّظام في مصر؟ وهكذا، إلى آخر قائمة الدّويلات والممالك والسّلطنات، لا فرق.
لهذا السّبب، ومنذ زمن بعيد، درج العرب على تلقّي الأخبار عمّا يدور في محيطهم من وسائل إعلام غربيّة، وبلغات أوروپيّة عند من يعرف تلك اللّغات، أو عبر محطّات غربيّة تبثّ بالعربيّة، وعلى رأس تلك، محطّة البي.بي.سي.

***
على القارئ العربي أن يتعلّم قراءة الخبر، لما في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيّة من تأثير كبير على النّاس في هذا العصر. إنّ لمصدر الخبر، كما لصياغته وكيفيّة تقديمه للقارئ أبعادًا تتراكم على مرّ الزّمن على رأس القارئ والمشاهد والسّامع بحيث يتمّ من خلالها غسل دماغه دون أن يعلم هو بذلك.
ولمجرّد التّمثيل فقط لما نرمي إليه، لنأخذ خبرًا واحدًا عن حدث جرى في يوم ما في بغداد، وكيف تمّ عرضه في بعض الصحف العربيّة. الخبر هو حول تفجير في مسجد شيعي في بغداد، وهو خبر صار، وللأسى والأسف، خبرًا عاديًّا في العراق في السّنوات الأخيرة، لأنّ الموت صار جزءًا من حياة العراقيّين اليوميّة.
وهاكم الخبر كما عُرض في صحيفة quot;الشّرق الأوسطquot; اللّندنيّة: quot;قالت الشرطة العراقية، امس، إن مهاجما انتحاريا فجر نفسه داخل مسجد شيعي في بغداد أمس، مما أدى الى قتل 11 مصليا على الاقل وأصابة 25 آخرين بجروح... وحسب مصدر في وزارة الداخلية العراقية، فان انتحاريا يرتدي حزاما ناسفا فجر نفسه امس داخل مسجد براثا الشيعي وسط بغداد قبيل صلاة الجمعة، مما أدى الى مقتل 11شخصا وإصابة 25 آخرين. ورجح المصدر ان يكون الانتحاري قد دخل المسجد الذي يحظى بإجراءات أمنية مشددة laquo;بزي إمام أو امرأةraquo;.

إذن، الخبر كما أوردته الصحيفة هنا، هو خبر ذو نبرة صحفيّة تقريريّة تنقل للقارئ المعلومات الخبريّة، كما حصلت عليها من مصادرها.
وهاكم الخبر ذاته، كما عُرض في صحيفة quot;النّهارquot; البيروتيّة: quot;تحدّى مفجر انتحاري الاجراءات الامنية المشددة في بغداد وفجّر نفسه داخل مسجد براثا الشيعي، فتسبب بمقتل 11 شخصاً واصابة 25 آخرين، في حين قتل 12 شخصاً في هجمات متفرقة. وتتفق العملية ونمط اعمال العنف التي تعهد الزعيم الجديد لتنظيم quot;قاعدة الجهاد في بلاد الرافدينquot; ابو حمزة المهاجر استمرارهاquot;.
مرّة أخرى تنشر الصحيفة الخبر وعدد القتلى والجرحى في هذه العمليّة، ثمّ تضيف إليه عدد القتلى في أماكن متفرّقة أخرى، كما تحاول أن تضع العمليّة ضمن أنماط العنف الّتي تعهّدت بالاستمرار في تنفيذها quot;قاعدة الجهادquot; ورئيسها الجديد.

***
أمّا الخبر ذاته فيصبح شيئًا آخر في صحيفة quot;السفيرquot; البيروتيّة، وهاكم نصّ الخبر: quot;على الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة المتخذة في العاصمة بغداد منذ ايام، تعرض مسجد شيعي لعملية انتحارية أدّت الى مقتل 13 وإصابة حوالى 30 بجروح، في وقت يتصاعد التوتر في مدينتي كربلاء والنجف، ويهدد بالتمدد جنوباً، على خلفية استمرار قوات الاحتلال الاميركي في اعتقال رئيس مجلس محافظة كربلاء عقيل صالح الزبيدي بتهمة المشاركة في اعمال المقاومةquot;.
إذن، مع قراءة الخبر في السّفير، يصبح عدد القتلى 13، وعدد الجرحى 30، بينما قرأنا قبل أنّ عدد القتلى 11، والجرى 25. أي أنّ صحيفة السّفير، ربّما قد تكون قتلت شخصين اثنين بينما هما لا يزالان على قيد الحياة، وربّما تكون جرجت خمسة أشخاص آخرين، بينما هم لم يُصابوا بأذى. أو قد تكون الصحيفتان الأخريان قد انتقصت تعداد شخصين من عداذ القتلى وأبقتهم على قيد الحياة، وكذا مع الجرحى الّذين لا شكّ أنّهم يئنّون في معاناتهم. غير أنّ الأدهى من ذلك، في الخبر الّذي تعرضه السّفير هو ما يأتي بعد ذلك. إذ أنّ الصحيفة تدسّ في الخبر شيئًا آخر له دلالات أخرى لا علاقة لها بالحدث كما حصل. فهي تربط هذا الخبر بصورة أو بأخرى بتصاعد التّوتّر في كربلاء والنّجف... على خلفيّة استمرار قوات الاحتلال الأميركي في اعتقال رئيس مجلس محافظة كربلاء عقيل صالح الزّبيدي بتهمة المشاركة في أعمال المقاومة. فما الّذي يتلقّاه القارئ من صياغة كهذه للخبر؟

***
وها هي صيغة الخبر كما تنشره quot;القدس العربيquot; اللّندنيّة: quot;وبينما قتل 12 شخصا في انفجار انتحاري بمسجد براثا الشيعي في بغداد، اغتيل امس الشيخ الدكتور يوسف يعقوب الحسان مسؤول هيئة علماء المسلمين في المنطقة الجنوبية وإمام وخطيب جامع البصرة الكبيرquot;.
أنظروا إلى هذه الـ quot;بينماquot; الّتي تتصدّر الخبر. يا لها من quot;بينماquot;. هذه الصّياغة الّتي تبدأ بهذه الـ quot;بينماquot; تعني شيئًا واحدًا. إنّها تعني أن خبر التّفجير ومقتل 12 شخصًا (كيف صاروا هنا 12؟ لا أدري) هو شيء عرضي وليس هو المهمّ في الخبر. إنّما المهمّ في نظر الصحيفة، هو اغتيال الدكتور... مسؤول هيئة علماء المسلمين، وإمان وخطيب جامع البصرة الكبير.
والشّيء الّذي يتّضح من صياغة كهذه أنّ quot;الدّنيا مقاماتquot; كما يُقال في لغتنا، فالمغدورون في الجامع البغدادي هم نكرات، لا أسماء لهم، ولا أبناء لهم وأقارب يحزنون على فقدانهم، وهم مجرّد عدد ليس إلاّ. بينما المغتال من هيئة العلماء، له اسم ولقب ومكان عمل، إلخ.

هذا هو مثال فقط على غسيل الدّماغ الّذي يتعرّض له القارئ العربي صبح مساء، في عصر الإعلام العربي!
[email protected]