في السّياسة العربيّة هنالك ظاهرة يمكن إجمالها بما يلي: الشّعارات الرّنّانة شيء والحقيقة الميدانيّة شيء آخر، وشتّان ما بينهما. وأكثر ما تتجلّى هذه الظّاهرة في الحركات الشّعبويّة القومويّة وعلى رأس هذه الحركات حركة البعث، بدءًا من البعث التّكريتي المندثر في العراق، وانتهاءً بالبعث القرداحي المُنحشر في سورية.
وهذا البعث، على شقّيه، لم يكن في يوم من الأيّام معبّرًا عن طموح القبائل والطّوائف والأقوام الّتي يتألّف منها نسيج هذين الصّقعين في هذا المشرق. صحيح أنّ الشّعارات كانت شعارات رنّانة وتدغدغ مشاعر وطنيّة حقيقيّة لدى أجيال عربيّة شابّة، غير أنّ الشّعارات كانت مجرّد ضرائب كلاميّة ليس إلاّ. هذه الضّرائب الكلاميّة هي جزء لا يتجزّأ من تركيبة الذّهنيّة العُرْبانيّة الّتي لم يطرأ عليها تغيير طوال هذه قرون طويلة.
وخير مثال على هذه الذهنيّة القبليّة ما يطال في الآونة الأخيرة شرائح واسعة من المثقّفين السّوريّين المعارضين لنظام الاستفراد والاستبداد القبلي في الشّام. فها هي الاعتقالات تشمل الموقّعين على إعلان بيروت-دمشق الّذي يدعو إلى تصحيح جذري للعلاقات السورية ـ اللبنانية بدءا بالاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان ومرورًا بترسيم الحدود والتّبادل الدّبلوماسي بين البلدين.

***
ولكي نفهم ما تخفيه هذه العقليّة المريضة والبغيضة، دعونا نقرأ، على سبيل المثال فقط، ما يوجّهه ما يُسمّى، زورًا وبهتانًا quot;القضاءquot; السّوري إلى هؤلاء النّاشطين. لقد ذُكر أنّ من بين التّهم الموجّهة إلى هؤلاء، وكما نقلته وكالة الصحافة الفرنسيّة، ما يلي: quot;إضعاف الشعور القومي...ونشر أخبار كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها ان تنال من هيبة الدولة أو مكانتها، والذم والقدح بحق رئيس الدولة أو المحاكمquot;.
إذن، بيان دمشق-بيروت يدعو إلى تصحيح العلاقة السورية-اللبنانية، والاعتراف باستقلال لبنان وترسيم الحدود بينهما. ومع أنّ هذا الكلام هو عين المنطق في ما يخصّ العلاقات بين الشعوب والدّول، غير أنّه بقدر ما يكون الكلام منطقيًّا بقدر ما يثير هذا المنطق ذهنيّة هذا البعث القبلي القرداحي. هكذا كانت الحال دائمًا، لأنّ هذا البعث الّذي يجثم على صدور الشعب السّوري المغلوب على أمره يعيش في حالة ذهنيّة مرضيّة بعيدة كلّ البعد عن مسار التّاريخ البشري المعاصر. إنّه يعيش في خانة الأوهام القبليّة القومويّة منذ غابر الأزمان. ولأنّه يعيش في هذه الحال الذّهنيّة فإنّ حقائق التّاريخ البشري المعاصر سرعان ما تصدمه مع كلّ مواجهة حقيقيّة على أرض الواقع المعاش في هذا العصر.
ولهذا السّبب، نرى أنّ هذه الذهنيّة العربانيّة المرضيّة تتجلّى في هذا الكلام الّذي يتمّ سبكه في ما يُسمّى تُهمًا تُوجّه إلى الناشطين السّوريّين الأحرار.

***
ما هذا الكلام الّذي يُصاغ على أنّه تُهمة: quot;إضعاف الشّعور القوميquot;؟
فهل هنالك من يملك ذرّة من عقل يستطيع أن يعطي تفسيرًا لهذا الكلام؟ ومن يُقرّر ما هو الشّعور القومي؟ وأيّ قضاء هو هذا الّذي يسمح بأن يُدرَج مثل هذا الكلام في عداد التّهم؟ وبالإضافة إلى ذلك، لا تكتفي مذكّرة التّهم بهذا الكلام فحسب، بل تضيف إليه تهمة أخرى: quot;نشر أخبار كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن تنال هيبة الدّولة أو مكانتهاquot;. لو كان هذا الكلام مضحكًا لضحكنا، غير أنّه لا مجال للضّحك هنا، إذ أنّ الكلام هذا الّذي يضعه ما يُسمّى quot;القضاءquot; السّوري في مرتبة التّهم، هو أكبر دليل على هشاشة هذا النّظام الأخلاقيّة أوّلاً وقبل كلّ شيء. فأيّ دولة هي هذه الّتي ينالُ الكلام من هيبتها؟ وأيّ هيبة هي هذه الهيبة الّتي تنال منها الدّعوة إلى حريّات ديمقراطيّة، وإلى الحفاظ على حقوق الإنسان، أو الدّعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين بلدين quot;شقيقينquot;، كما اعتاد العربان وسم العلاقات بينهم بلغة عربيّة بليدة؟ وفوق كلّ ذلك، منذ متى وفي أيّ قانون أو شرع بشري، يُصبح ذمّ رئيس الدّولة أو المحاكم تُهمة يُعاقَب عليها؟ أليست هذه التّهم خير مثال على هشاشة هذه الأنظمة، وخير مثال على ذهنيّة العربان المريضة المتحكّمة بمصائر البشر؟
غير أنّ ثَمّ ما هو أكثر غرابة في أمر هذه الذّهنيّة العربانيّة المرضيّة، ألا وهو وجود بعض القومجيّين من مراهقي العروبة، من صنف أولئك الّذين يُقسمون يمين الولاء لدولة إسرائيل في الكنيست وينعمون بحريّاتها، وفي نفس الوقت يدافعون عن هذا النّظام البعثي القرداحي القبلي الفاشي؟
وفي مثل هؤلاء نقول: للّه في خلقه شؤون. أليس كذلك؟

[email protected]