انتهت الانتخابات الإسرائيليّة وفرزت الأصوات وظهرت النّتائج على الملأ. فكيف، إذن، نفسّر ما أفرزته هذه الانتخابات لدى الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل؟ السّياسيّون العرب من بين فلسطينيّي إسرائيل، ومثلما سارعوا في الماضي سارعوا الآن أيضًا، كلّ لأهدافه طبعًا، بالإشادة بدوره ودور حزبه وقيادته في نجاح قائمته وحزبه في الصّمود في هذه الحملة الانتخابية وعبور نسبة الحسم، بغية إيصال مندوبيه إلى الكنيست. وكلّ واحد من هؤلاء سيدّعي بأنّه القوّة الأكبر والحزب الأكبر بين عرب إسرائيل، أو سمّوهم كما تشاؤون من مسمّيات. ليكن كلّ من هؤلاء هو الحزب الأكبر فلا فرق، إذ أنّنا هكذا نحن دائمًا في بلاغتنا العربيّة البليدة، وكما هي الحال مع جمهرة الشّعراء العرب، لا يوجد لدينا ما هو صغير، فكلّ شاعر لدينا هو شاعر كبير. هكذا نحن، كلّنا كبار وحزبنا هو الحزب الأكبر الّذي لا يُشقّ له غبار. لا بأس فقد قيل في كلامنا الشّعبي quot;ما فيش على الكلام جمركquot;. غير أنّي في هذه المقالة سأضع بعض النّقاط على الحروف المبهمات ممّا أفرزته نتائج الانتخابات ستغيب بلا شكّ عن مجمل التّحليلات المنشورات والّتي ستنشر فيما هو آت في أكثر من مكان.

أوّلاً، تجدر الإشارة أصلاً إلى أنّ حوالي ٤٥ بالمئة من أصحاب حقّ التّصويت لم يكلّفوا أنفسهم بالذهاب إلى الصّناديق والإدلاء بأصواتهم. وبالإضافة إلى هؤلاء فإنّ رُبعًا من المصوّتين الّذين شاركوا في الاقتراع فقد منحوا أصواتهم لأحزاب صهيونيّة بما فيها أحزاب دينيّة يهوديّة كحزب quot;شاسquot; على سبيل المثال. وهذا يعني، فيما يعنيه، أنّ الأكثريّة من أصحاب حقّ الاقتراع من بين الفلسطينيّين في إسرائيل لا تثق بالانتخابات بصورة عامّة، ولا تثق بالأحزاب العربيّة تلك الّتي تحاول تمثيل هذه الأقليّة في الكنيست. وهذا الواقع نابع إمّا من لا مبالاة هؤلاء النّاس بما يجري حولهم أو لعدم ثقتهم بإمكانيّة التّأثير من خلل الانتخابات، أو أنّه نابع من إحباطهم وعدم ثقتهم بالسّياسيّين العرب، ولا نستثني أحدًا منهم، والّذين صار همّهم الأوّل والأخير التّنافس على الظّهور على شاشات التّلفزة المحليّة أو شاشات الفضائيّات العربيّة، ليس إلاّ.

ثانيًا، إذا نظرنا إلى كيفيّة توزيع الأصوات في القرى والمدن العربيّة كما أفرزته نتائج التّصويت فإنّنا سنرى أمورًا عجيبة غريبة. ومن المهمّ محاولة فهم ما جرى وكيف توزّعت الأصوات لأنّ في هذا ما يفيدنا ويقودنا إلى فهم تيّارات عميقة تعبّر عن أهواء لا يمكن التّغاضي عنها. هذا، إذا كنّا نرغب حقًّا في دفع هذه الأقليّة إلى مرحلة متقدّمة من بناء مجتمع مدني يواجه ما يخبّئه له المستقبل، وفي العمل على درء الإفرازات البغيضة الّتي قد تأتي لاحقًا.

إذا رغبنا في فهم ما جرى ويجري، علينا أن ننظر في نتائج التّصويت في بعض القرى الّتي لم يكن أحد من أبنائها مرشّحًا في مكان مضمون ضمن الأحزاب النّاشطة على السّاحة العربيّة. وهذا الأمر مهمّ من أجل تحييد بعض الأمور العاطفيّة الّتي عادة ما تدفع النّاس إلى تصويت لصالح ابن بلدتهم في الانتخابات كجزء من التّضامن المحلّي. ولهذه الغاية سنأخذ على سبيل المثال عيّنة من القرى التّالية: معليا وفسّوطة وهما قريتان تقتصران على أبناء الطّائفة المسيحيّة، ثمّ جولس وساجور وهما قريتان تقتصران على أبناء الطّائفة الدّرزيّة. إذ لم يكن من أبناء هذه القرى الأربع مرشّح مضمون في أيّ من الأحزاب.

يتّضح من نتائج الانتخابات في هذه القرى أنّ القائمة العربية الموحّدة ذات الصّبغة الإسلاميّة لم تحصل على أصوات بالمرّة. بينما حصلت هذه القائمة على نسبة عالية من الأصوات في القرى الإسلامية الصّرفة. وهذه الحقيقة هي خير برهان لما كنت ذكرته في مقالة سابقة من أنّ الحركة الإسلامية الّتي ظهرت بين الأقليّة العربيّة في إسرائيل لعبت وتلعب دورًا كبيرًا في شرذمة وتفتيت الأقلية العربية في إسرائيل إلى طوائف وملل ونحل. فإذا ظهرت على الساحة السّياسيّة قائمة إسلامية دينية، فمن الطّبيعي أنّها تنحي جانبًا أبناء الطّوائف الأخرى من المسيحيّين والدّروز الّذين يشكّلون جزءًا لا يتجزّأ من هذه الأقلية العربية. ولهذا السّبب بالذّات لم تمنح القرى المذكورة آنفًا أيّ صوت لهذه القائمة العربيّة الّتي تُسمَّى مُوَحَّدَة بالاسم، بينما هي مُفَتِّتَة ومُشَرذِمَة بالفعل.

وفي الوقت ذاته، لو تمعّنا مليًّا في نتائج الانتخابات في هذه القرى لرأينا شيئًا آخر تجدر الإشارة إليه، ولا يمكن دسّ الرؤوس في الرّمال والتّظاهر بعدم رؤيته. لقد حصل تجمّع عزمي بشارة على أعلى نسبة في القريتين المسيحيّتين، وهما معليا وفسّوطة. والسبب من وراء هذا التّصويت واضح للعيان، مع أنّ المحلّلين العرب عادةً ما لا يقتربون إلى قول الأمور بصراحة جريًا على تقليعة الـ quot;پوليتيكلي كوريكتنسquot; أو ما يمكن أن نسمّيه اللّياقة السياسيّة. فلقد أعطت هاتان القريتان أصواتًا كثيرة للتّجمّع لسبب واحد هو أنّ عزمي بشارة الّذي يتزعّم حزب التّجمّع ينتمي إلى الطّائفة المسيحيّة، ليس إلاّ، بينما يقف على رأس الجبهة الديمقراطية مرشّح مسلم.

ومن جهة أخرى لو نظرنا في النّتائج في القريتين الدّرزيّتين، أي في جولس وساجور، فماذا نرى؟ لقد حصلت الأحزاب الصهيونية في ساجور على ثلاثة أرباع الأصوات، وفي جولس حصلت هذه الأحزاب الصهيونية على أكثر من ثمانين بالمئة من الأصوات، بينما لم تحصل الجبهة الديمقراطيّة، على سبيل المثال، على أيّ صوت في هاتين القريتين. غير أنّ الأمر الغريب هو حصول تجمّع عزمي بشارة على مئات الأصوات في هاتين القريتين. وإذا أخذنا بالاعتبار أنّ غالبية أبناء هاتين القريتين يعملون في سلك قوّات الأمن الإسرائيليّة، جيشًا وشرطةً، فهل بوسعنا أن نقول إنّ هذه النّتائج القريتين تعني أنّ تجمّع عزمي بشارة، الحامل لراية العروبة، قد اخترق قوّات الأمن الإسرائيليّة؟ أمر غريب، أليس كذلك؟
لا. لم يخترق حزب التّجمّع القوموي قّوات الأمن الإسرائيليّة لدى القريتين الدّرزّيّتين بأيّ حال من الأحوال. لقد حصل التّجمع على تلك الأصوات في هاتين القريتين لسبب واحد بسيط، وهو أنّ النّائب عزمي بشارة قام وبدعم من حكومة البعث القبلي السّوري بفتح ما يشبه مكتب سفريّات، وتنظيم زيارات إلى سوريّة التقى فيها بعض هؤلاء المواطنين بأقرباء لهم هناك لم يلتقوا بهم منذ النّكبة. وعرفانًا من هؤلاء المواطنين على تنظيم هذه الرّحلات فقد قاموا بمنح أصواتهم لحزب عزمي بشارة، ولم يكن تصويتهم للتّجمّع لأسباب سياسيّة أو أيديولوجيّة بأيّ حال من الأحوال.

لعلّ في ما أقول شيئًا من التّعميم الّذي قد يُخطئ هنا وهناك لدى بعض الأفراد والشّرائح لدى كلّ الطّوائف الّتي يتألّف منها مجتمعنا، غير أنّ الصّورة العامّة تبقى على ما أقول ولا يمكن أن تُفَسَّر إلاّ على النّحو الّذي عرضته عليكم. وحينما أقول هذا الكلام، فإنّما أبتغي الإشارة إلى أمور متجذّرة في ذهنيّات مجتمعنا بكلّ ملله ونحله، ومن أجل تدارك هذا الاصطفاف القبلي والطّائفي وكسر شوكته الآن وقبل فوات الأوان. ففي نهاية المطاف تشخيص المرض هو أقرب الطّرق إلى العلاج. أليس كذلك؟

[email protected]