هنالك وجهان لعملة التّطوّر البشري الّذي يشهده العالم المعاصر. ومهما كان موقفنا من السّياسات الأميركيّة الّتي تتّسم بالغباء في كثير من الأحيان، أو هكذا يُخيّل لنا على الأقلّ، فإنّ أميركا، على كلّ ما فيها، تبقى الممثّل الأبرز للعالم الغربي، أو هي في حقيقة الأمر الغرب برمّته. ومهما حاولنا تلطيف المقولة بأنّ ثَمّ تنويعات داخل هذه الرّؤية التّعميميّة طبعًا، إلاّ أنّه لا يمكننا بأيّ حال أن نتغاضى عمّا يمثّله هذا القطب الدّولي من مفاهيم كبرى هي في نهاية المطاف لا تتصادم، بقدر ما تلتقي، مع سائر الأطياف السّياسيّة والاجتماعيّة الّتي يتشكّل منها العالم الغربي في هذا العصر. صحيح، هنالك فروق بين أوروبا وأميركا، أو بين اليابان وأميركا، أو بين روسيا وأميركا إلى آخر هذه القائمة من الدّول الصّناعيّة الكبرى، غير أنّ المبدأ الأكبر الّذي يجمع كلّ هذه الدّول الآن، وبعد زوال وتفرّق الدّكتاتوريّات الشّيوعيّة أبدي سبأ، هو مبدأ الدّيمقراطيّة وتداول السّلطة عبر صناديق الاقتراع. وهذا الوجه هو الوجه الأساس الّذي تنبني عليه الحضارة المتقدّمة في هذا العصر. وبالإضافة إلى هذا الوجه من الحضارة الغربيّة هنالك وجه آخر لهذه الحضارة المتقدّمة لا يمكن تجاهله أيضًا، وهو وجه يرفد الوجه الأوّل بطاقة كبرى تساعده على الصّمود في وجه الأعاصير الّتي قد تعصف به. والوجه الّذي نعنيه هو الوجه المشرق الّذي يفصل الدّين عن الدّولة.

***
ما من شكّ في أنّ هذين الوجهين هما الوجهان النّاصعان للمبدأ الأساس الّذي لا مناص من الأخذ به رايةً كبرى تسير الشّعوب على هديها في مسار التّطوّر المتسارع. والمبدأ الأساس الّذي نعنيه هو مبدأ المساواة التّامّة بين الأفراد في المجتمع. فكلّ فرد هو عنصر فاعل في ماكينة مدنيّة لا تتوقّف عن العمل والإنتاج في جميع المجالات وعلى جميع الأصعدة. وعندما نقول الفرد فإنّا نعني بما يحمله المصطلح من معنى من النّاحية المبدئيّة، فلا فرق بين رجل وامرأة، بين أبيض وأسود ولا فرق بين إثنيّات وطوائف دينيّة. فالفرد، بمعزل عن كلّ التّنويعات البشريّة، يتساوى أمام القانون المدني مع سائر أفراد المجتمع الّذين أجمعوا على الحياة ضمن هذا الدّستور الأساس الأكبر.
إنّ الإجماع على العيش تحت راية هذه المبادئ لا يعني إطلاقًا عدم وجود شوائب في مسيرة هذه المجتمعات، فهنالك بلا شكّ الكثير ممّا لا يمكن القبول به، غير أنّ النّظام الأساسي الّذي تسير بموجبه المجتمعات يشتمل على الآليّات الّتي يمكن الاستعانة بها لدرء الأخطاء وتحسين الأداء وتشحيم ماكينة النّظام لمواصلة العمل الدّؤوب على دفع قطار التّطوّر قدمًا.

***
وعندما تعيش هذه المجتمعات، على العموم، تحت راية فصل الدّين عن الدّولة، فهذا لا يعني أنّّها قد تركت الدّين، بل ربّما على العكس من ذلك. فإذا نظرنا إلى المجتمع الأميركي على سبيل المثال، وحسبما تفيد الدّراسات، فإنّ هذا المجتمع من أكثر شعوب العالم تأثُّرًا بالدّين في حياته الخاصّة. غير أنّه ورغم هذه الحقيقة فإنّّ جميع أطياف الشّعب الأميركي تدافع عن مبدأ فصل الدّين عن الدّولة بكلّ طاقاتها. إذ أنّ هذا الفصل الدّستوري بين الدّين والدّولة هو وحده الكفيل بأن يمارس كلّ فرد في المجتمع طقوسه كما يرغب دون تدخُّل من الدّولة في هذه الطّقوس بأيّ حال. ومبدأ الفصل هذا بين الدّين والدّولة، وحين يأتي مصحوبًا بالبناء الدّيمقراطي وتداول السلطة اقتراعًا، هو ما يدفع العالم الغربي قدمًا في ركب التّطوُّر.
ولو نظرنا إلى العالم من حولنا لرأينا أنّ الأمم الّتي تسير بموجب هذه المبادئ هي الأمم الّتي تطوّرت، بينما سائر الأمم الّتي لم تفهم بعد هذه الحقيقة قد بقيت في الصّفوف الخلفيّة، أو وجدت نفسها على قارعة الطّريق غير بعيد عن مناطق التّصحُّر. وعندما نقول الصّفوف الخلفيّة فلا شكّ أنّ ما يتبادر إلى ذهن القارئ العربي، هو حال العرب في هذا العصر. وفي هذا العصر الّذي تتسارع فيه المجتمعات على ركوب قطار التّطوُّر، لم يعد من المجدي أن يقوم العرب بدسّ الرؤوس في الرّمال، فالعالم أضحى مفتوحًا على مصاريعه، وبوسع كلّ فتى عربيّ أن يشاهد ما يجري حوله في هذا العالم. كما لم تعد ماكينة الدّجل العربيّ تنطلي على الأجيال العربيّة الجديدة.

***
ما العمل، إذن؟
من أجل الخروج من هذا المأزق العربي، يجب أن نكفّ عن تناول الحبوب المخدّرة الّتي أدمنّا على تناولها طوال عقود. إذ أنّ هذه الحبوب المخدّرة هي الّتي دفعت بالعالم العربي أن يكون في واد، بينما سائر العالم في واد آخر. والحقيقة أنّ هنالك تشكيلة متنوّعة من هذه السّموم الّتي يتناولها الفرد العربي صباح مساء، وآن الأوان إلى وقف تعاطي هذه الحبوب فورًا.
أوّلاً، يجب حلّ جامعة الدّول العربيّة وعودة أمينها العام إلى بلده ليتعاطى مع الأمور الّتي تخصّ الشّعب المصري، فلا شكّ أنّ الشّعب المصري بحاجة إليه أكثر من حاجة سائر الشّعوب العربيّة إليه. ناهيك عن أنّ تاريخ الجامعة العربيّة شاهد على إفلاسها منذ قيامها.
ثانيًا، التّوقّف عن الإيمان بالأسطورة المسمّاة العروبة. العروبة هذه هي وهم ترعرعنا عليه عقودًا طويلة ولم يجلب علينا هذا الوهم سوى الكوارث تلو الكوارث. ليس ثمّ ما يجمع بين هذه التّكتّلات القبليّة في هذه البقعة المترامية الأطراف من المحيط إلى الخليج. ربّما القاسم المشترك الأوحد بينها هو الطّبيعة القمعيّة للنّظام المتوارث ملكيًّا كان أم جمهوريًّا، لا فرق.
ثالثًا، أن يبدأ كلّ قطر، وبسبب التّركيبات الإثنيّة والدّينيّة والطّائفيّة الّتي يتشكّل منها نسيجه الاجتماعي، بالعمل على فصل الدّين عن الدّولة، لأنّ هذا هو المبدأ الوحيد الّذي يمكن أن يتعايش تحت رايته جميع البشر على اختلاف مللهم ونحلهم.
رابعًا، العمل على وضع بند واضح في الدّساتير العربيّة يشير إلى تداول السّلطة ديمقراطيًّا عبر صناديق الاقتراع. وهذا البند يجب أن يقترن ببند آخر يجعله أقرب للقبول من قبل شرائح المجتمع الواسعة، ونعني به أن تقتصر ولاية الرّئيس المنتخب على ولايتين رئاسيّتين فقط. فإذا كان هذا المبدأ نافعًا لأميركا، فكم بالحريّ فيما يتعلّق بنا، نحن العربان.
هذه هي الطّريق للخروج من المأزق العربي، وإن كانت لديكم طريق أخرى هيّا أرشدونا.

[email protected]