لقد بدأ يتّضح أكثر فأكثر أنّ استخدام العقل والمنطق في الكلام يثير حفيظة الكثير منّا نحن العرب. وهذه الحال هي أكبر شاهد على أنّنا على العموم مخلوقات عاطفيّة أكثر منها عقليّة. لا بأس بالعواطف والحواسّ فهي جزء من هذه الطّبيعة الحيوانيّة الّتي نشارك فيها سائر المخلوقات، غير أنّنا حُبينا بملكة أخرى قليلاً ما نستخدمها؛ هي ملكة العقل. ثمّ ألم يرو لنا السّلف أنّ أوّل ما خلق اللّه العقل؟ لكن، ورغم هذه الهبة فها نحنُ نصرّ على تعطيلها، وبدل ذلك نطلق العنان لما حُبينا من عواطف. لا يمكن أن تتطوّر الشّعوب دون أن تعرف كيف تعيش في توازن بين العاطفة والعقل.

***
إذن، كيف آلت بنا الحال إلى هذا الحضيض الّذي وجدنا أنفسنا فيه؟ إنّه بلا شكّ سؤال محيّر، ولا نجزم بأنّنا نمسك بأيدينا جميع الخيوط للإجابة عليه. لكن، وفي الوقت ذاته، إنّه لمن واجبنا الأخلاقي، إذا ما رغبنا في النّظر إلى أنفسنا في المرآة دون أن نشعر بالقرف ممّا نرى، أن نطرح على الملأ هذه الأسئلة الّتي تدور بخلدنا. إنّ طرح الأسئلة هو أمر في غاية الأهميّة، لأنّ السؤال هو مفتاح الجواب. فإذا لم نعرف كيف نطرح السّؤال بيننا وبين أنفسنا فلن نصل إلى أجوبة وافية شافية تنقذنا وتنقذ مجتمعاتنا من هذا الحضيض.

***
لقد شاعت في الخطاب السّياسي العربي، أكان شعبيًّا هذا الخطاب أم رسميًّا، مقولات تتكرّر دون أن نتفكّر في ما تُخفيه هذه المقولات خلف الكلام العاطفي الّذي يلفّها. فإذا طالب كاتب عربيّ بالانتباه إلى خروقات حقوق الإنسان الّتي تحصل في بلاد العرب، وبالدّعوة إلى إقامة العدل في هذه البقعة من العالم، قامت قيامة هؤلاء النّفر ممّن يُطلق عليهم الخطاب العربي البليد زورًا وبهتانًا اسم قوميّين أو إسلاميّين، وطفقوا ينعتون من ينتصر لحقوق الإنسان لقب العمالة للصهيونية والإمپرياليّة وخدمتهما. وإذا انتصر كاتب عربيّ لحقوق المرأة العربيّة، ودعا إلى مساواتها والرّجل في كلّ شيء وفي كلّ موقع، في البيت والشّارع والعمل أي في الحياة بكلّ مجالاتها، تنطّح هؤلاء النّفر زاعمين أنّ كلّ شيء على ما يرام، وما هذه الدّعوة سوى بدعة صهيونية وإمپرياليّة. وإن ندّد كاتب عربيّ بالإرهاب الّذي يسوّد وجوه هذه الأمّة في مشارق الأرض ومغاربها، ولدى أعاجم الأرض وأعاربها، وصمه هؤلاء النّفر بالعمالة لأميركا والصهيونية.

***
فهل حقًّا أنّ كلّ هذه القيم السّامية الانسانيّة الّتي لا ينتصر لها إلاّ مرضى النّفوس والذّهنيّات البائدة من هؤلاء النّفر هي قيم تخدم الصهيونية وأميركا؟ ألا يتفكّر هؤلاء الجهلة قليلاً في هذه الشّعارات البليدة الّتي يروّجونها؟ ألا ينعمون النّظر في ما يقولون ويصرّحون؟ لو أنّهم تفكّروا قليلاً، وأعملوا ما بقي من ذرات عطّلوها في عقولهم، ولو أنّهم جنحوا إلى منطق الكلام لتوصّلوا إلى حقيقة مذهلة. فإذا كانت كلّ هذه القيم السّامية هي خدمة للآخرين وعمالة لهم، فأيّ خدمة يريد هؤلاء النّفر من الكتّاب العرب أن يقدّموها إلى شعوبهم. إنّ منطق كلامهم البليد يعني شيئًا واحدًا: من أجل خدمة الأمّة العربيّة، علينا أن نؤمن بخرق القيم الإنسانيّة، بخرق حقوق الإنسان، باستعباد واضطهاد المرأة، بالاعتداء على الطّوائف الأخرى، بالإرهاب، بتقديس الزّعامات المتوارثة... إلخ. هل هذه هي الخدمة الّتي يريدها هؤلاء الجهلة؟ ولماذا بجهلهم البليد هذا ينسبون كلّ هذه القيم السّامية إلى الآخرين وينفونها عن ذواتهم.

***
لذلك، يجب أن نعلنها صراحة وعلى الملأ: إنّ الإبقاء على أنظمة الاستبداد العربيّة هو خدمة للصهيونية والإمپريالية. إنّ السكوت على المظالم وخرق حقوق الإنسان في العالم العربي هو خدمة للصّهيونية والإمبرياليّة. إنّ توريث الأنظمة، كما نرى في العالم العربي هو خدمة للصّهيونيّة والإمپرياليّة. إنّ إشاعة ثقافة الجهل وثقافة الكراهية للآخرين هو خدمة للصّهيونية والإمپريالية. إنّ الإرهاب الّذي يوجّه إلى المدنيّيين في كلّ مكان ويصمت العرب إزاءه، هو هو الخدمة الجليلة للصّهيونية والإمپريالية. كما أنّ الصّمت على جرائم الإرهاب في العراق وفي دارفور في السّودان هو خدمة للإمبريالية. إنّ الصّمت على غرق العبّارة المصريّة وغرق الآلاف دون محاسبة أحد، بل وتنشر الفضائية المصريّة وغيرها من فضائيّات الجهل العربيّة هذا الخبر كما لو أنّه حدث عابر في مكان ناء على هذه الأرض، هو هو الخدمة الجليلة للإمبريالية والصّهيونيّة. وإنّ الصّمت على فساد سلطة عرفات وبطانته وسرقة مئات الملايين، هو هو الخدمة الجليلة للصّهيونية والإمبريالية. وحين تخرج الآلاف المؤلّفة في تظاهرات بسبب كاريكاتورات سخيفة، بينما لا تخرج في مظاهرات ضدّ الاستبداد والمظالم وتوريث الرئاسات في بلادها، فهذه هي الخدمة الجليلة للصهيونية والإمبريالية. إذن، وبعد كلّ هذا فمن منّا يخدم الصهيونية والإمپرياليّة أيّها الجهلة! وبعد كلّ هذا، لا مناص من السّؤال الملحّ: من أيّ طينة، ومن أيّ جينة جُبلت هذه الأمّة؟ فماذا أقول بعد كلّ هذا؟

طاب ثراك يا أبا نواس، فهل تسمعني؟

عاجَ الشّقيُّ على رَسْمٍ يُهيّجُهُ
وعجتُ أسأل عَنْ عَبّارَةِ البَلَدِ

يَبْكِي عَلَى طَلَلِ الماضينَ مِنْ عَرَبٍ
وَطُفْتُ أَبْكِي عَلَى مَنْ ضَاعَ فِي الزَّبَدِ

أَيْنَ النُّواسِيُّ يَقْضِي بَيْنَنَا حَكَمًا
لا دَرّ درُّكَ، عاثَ الغَيْظُ فِي كَبِدِي

قَوْلاً أَصَبْتَ فَعُدْتُ اليَوْمَ أَرْفَعُهُ
لَيْسَ الأَعاريبُ عِنْدَ العَقْلِ مِنْ أَحَدِ

[email protected]