طوال عقود مرّت، ترعرع الواحد فينا، شبّ وها قد بلغ الشّيب مفرقه ولا زالت كلّ شعارات العروبة ووحدة الهدف والمصير، وثوابت الأمّة والقضيّة مرورًا بالاشتراكيّة، وكلّ هذا الخليط الغريب الّذي كان في الواقع أكثر دغدغة لمشاعر المراهقة الحضاريّة منه إلى بلوغ ذهني، وأقرب إلى خيال جامح منه إلى واقع ناجم عن عقل متّزن راجح. فلم يكن شعار العروبة في الحقيقة يعني شيئًا في نفسيّة البشر سوى هذه اللّغة العربيّة المتحجّرة الّتي تنتهل من ذاك الموروث الحضاري البلاغي الجاهلي الّذي يُنمّي في عقول التّلاميذ تلك النّزعة القبليّة الّتي هي أبعد ما تكون عن كونها حافزًا للوحدة، أيّ وحدة. وحتّى هذه اللّغة العربيّة أضحت في وضع لم يعد فيه أهلها يعرفونها، وقليلاً ما يتحدّثون بها، أو يقرؤونها أو يفهمونها.

***
وها هي كلّ الأقطار العربيّة الّتي تشكّلت دُولاً تدّعي السّيادة على حدود رسمها لها الاستعمار، أبعد ما تكون عن تشكيل شعب ذي خاصيّة وتكافل فيما بين شرائحه المتشكّلة من فسيفساء بشري. ولو نظرنا إلى كلّ هذه التّشكيلات "السّياديّة" شعارًا لا واقعًا معاشًا، نرى أنّ السّوريّ السّوري لم يصر سوريًّا ولا العراقي أضحى عراقيًّا (كما يظهر جليًّا الآن على ساحة بلاد الرّافدين)، ولا اللّبناني تحوّل لبنانيًّا ولا الفلسطيني طفق فلسطينيًّا، إلى آخر قائمة شعوب السّلطنات والمشيخات من الماء إلى الماء. فلا الدّول أضحت دولاً ولا الشّعوب صارت شعوبًا، بل تشعّبات لا حصر لها. لم تُشكّل هذه الدّول شعوبًا حقيقيّة بما يعنيه مصطلح الشّعب هذا كما تعرفه شعوب الأرض الأخرى، وإنّما جمعت الحدود مجموعات سكّانيّة يفرق بينها الدّين والمذهب والطّائفة والقبيلة، أي تفرق بينها حدود التّعاطُف الأقوى لدى هذه الجماعات البشريّة، تلك الحدود الّتي تطغى على أيّ تعاطف آخر. لقد حُكمت هذه الجماعات طوال تاريخها القديم والحديث بيد من حديد حينًا، وبيد من وعيد حينًا آخر، من قبل كلّ هؤلاء الّذين يطلقون شعارات رنّانة صمّت الآذان، ولا شيء غير الشّعارات.

***
آن الأوان لأن نصارح أنفسنا علنًا، لأنّنا فقط إذا ما واظبنا على فعل الصّراحة نستطيع أن نمسك بطرف خيط قد يتشكّل بصيصًا من أمل للمستقبل. لأنّ الماضي مشؤوم والحاضر مشؤوم، فما بالنا لا نولي المستقبل بعضًا من اهتمام؟ وحين أقول، أن نُصارح أنفسنا فهذا يعني أن نطرح ما يجول في أعماقنا، وما يتمّ التهامس به بين الأفراد وفي الجلسات البعيدة عن أعين العباد. كفانا زيفًا ودجلاً. هل نحنُ أمّة جُبلت على الرّياء والزّيف والدّجل؟ قد يعتقد البعض أنّي ذهبت بعيدًا في هذا التّوصيف لحالنا، ولكن، أليس من حقّنا جميعًا، أن نتفكّر في حالنا بعض الشّيء؟ فحينما نطلق شعاراتنا باسم الشّعب، كلّ شعب منّا من المحيط إلى الخليج، فهل نحنُ نفهم حقًّا ما يعنيه هذا المصطلح، وهل "شعوبنا" هذه الّتي نتشدّق بها صباح مساء تتصرّف بما يحويه هذا المصطلح في ثناياه؟ هل فكّرنا، ولو لمرّة واحدة في حياتنا، ماذا يعني هذا المصطلح؟ هل حاولنا أن نتقصّى، ولو لمرّة واحدة، خارج إطار الشّعارات، إن كُنّا حقًّا نليق بأن يُطلق علينا هذا المصطلح بكلّ ما يعنيه من دلالات؟ هل نحنُ جزءٌ لا يتجزّأ من هذا النسيج البشري المُحدق بنا من كلّ جانب، لنا ما له وعلينا ما عليه؟ وهل حقًّا نحنُ نريد لنا ولغيرنا الخير؟ أم أنّنا نتشدّق صباح مساء بكلّ هذه الشّعارات، بينما نحن في قرارة أنفسنا لا نُخفي ولا نضمر غير الشّرّ؟
وهل نحنُ أمّة جُبلنا على الشّرّ حقًّا؟ فمن نحنُ إذن؟ ولماذا نحن على هذه الحال؟

***
لقد طفح الكيل. أما يكفي كلّ ما حلّ بنا حتّى الآن؟ ألم يئن الأوان بعد، لأن نقول صراحة وعلى الملأ، إنّ الإسلام هو المشكلة وليس هو الحلّ؟ لم يكن الإسلام حلاًّ في يوم من الأيّام أبدًا. فكلّ ما كان هو حركة استعماريّة عربيّة أضفت على نفسها صبغة رسالة دينيّة لتبرير غزوات قبليّة عربيّة بغية السّلب والنّهب وتحطيم حضارات شعوب أخرى، ليس إلاّ. هذه هي الحقيقة، وكفانا لفًّا ودورانًا. الإسلام هو هذه الأيديولوجيّة التي استعمرت الذّهنيّة العربيّة وقضت على كلّ خلايا العقل العربي، بل وذهبت بعيدًا في القضاء على خلايا العقل لدى شعوب أخرى استعمرتها. وإن لم يكن هذا هو التّفسير، فكيف تُفسّرون أن أكثر البلاد الأوروبيّة تأخّرًا في هذا العصر هي ألبانيا بالذّات؟ أليس في هذه الحقيقة ما يوحي بمصدر هذا التّخلّف؟ ولهذا، نستطيع أن نجزم الآن، إنّه لو بقي الإسلام في الأندلس لما كانت حال إسبانيا بأحسن من حال ألبانيا اليوم. أمّا كلّ أولئك الّذين يتشدّقون بتلك الأيّام الخوالي والبوالي من عصر كان للعرب فيه حضارة، فيكفي أن يعترف هؤلاء على الأقلّ بأنّ تلك الحضارة قد حدثت خارج الإسلام. لذلك فقد كان مصير حملة رايات تلك الحضارة مصيرًا بائسًا بدءًا بالتّكفير وانتهاءً بالقتل والسّحل والصّلب على أيدي السّلفيّين. هكذا كان في الماضي، وهذا هو الوضع الآن. آن الأوان للاعتراف بكلّ ما لنا وما علينا.

***
آن الأوان لأن نصرّح بذلك علنًا وعلى رؤوس الأشهاد، وما لم نر هذه الحقيقة ودون مواربة، سنظلّ نسير، إلى ما شاء الزّمان، من هاوية إلى أخرى ومن قاع إلى قاع، ولا زالت هنالك قيعان كثيرة لم نصلها بعد. نعم، ربّما كنتُ كغيري من أبناء هذه الأمّة قد ترعرعت على كلّ تلك الأساطير، أو ما يسمّى أمجاد هذه الأمّة. ولكن، وبعد أن تقدّم بنا الزّمان وعدنا نبحث في ما بقي لنا من تراث، وهو تراث لم يعد مقروءًا على العموم، لأنّ الأميّة قد تفشّت فينا كالسّرطان، فبماذا نخرج من كلّ هذا التّراث الدّموي، تراثنا نحن، بعيدًا عن شعارات ممجوجة؟ لقد تُرك كلّ هذا التّراث لكلّ أولئك التّجّار من أهل الشّعوذة، لكي يقوموا بتجميله في أعين العامّة من البشر. آن الأوان لكي نعترف أمام أنفسنا أوّلاً، لأنّ الاعتراف هذا هو مفتاح الصّلاح. صحيح أنّ التّاريخ البشري مليء بمثل كلّ ذلك أيضًا. هذا صحيح، وهو عين الحقّ. لكنّ البشريّة الآن تعيش في هذا العصر، وتطمح إلى ما هو أسمى. بينما نحنُ في بلاد العرب، ما الّذي نطمحُ إليه؟ هل نطمحُ إلى العودة للقرن السّابع، بدعوى الصّفاء والنّقاء في ذلك الزّمان؟ وهل حقًّا كان ذلك عصر صفاء ونقاء؟

***
حتّى متى سنستمرّ في هذا الكذب على أنفسنا. أليس تاريخنا هذا كلّه هو تاريخ قتل وسلب ونهب وجرائم تقشعرّ لها الأبدان؟ لنقرأ تاريخنا وحضارتنا بعيون ثاقبة. لأنّ القراءة الثّاقبة هي وحدها الكفيلة بهدايتنا إلى سبل العلاج، وهي وحدها الكفيلة برسم طريق الخروج من هذه القيعان العفنة الّتي نُصرّ على أنّ ثمّة تحتها قيعانًا أنقى وأصفى. نحنُ جميعنا نعلمُ أنّ القيعان السّفلى، هي قيعان أكثر عفونة ممّا قد يتصوّر البعض، وهي القيعان الّتي تتكدّس فيها كلّ ترسّبات العفن.
كفانا ضحكًا على الذّقون، لأنّنا في نهاية المطاف نضحك على أنفسنا ليس إلاّ.

[email protected]