هل الكراهية عقيدة توحيديّة؟ (4)

عندما نتطرّق الآن إلى كراهية اليهود الّتي‮ ‬تنضح بها في‮ ‬العقود الأخيرة كتابات عربيّة كثيرة ومتعدّدة المشارب،‮ ‬من إسلامويّة وقومويّة،‮ ‬أو تلك الّتي‮ ‬تُلقى في‮ ‬منابر المساجد أو في‮ ‬السّاحات العامّة،‮ ‬يجب أن نفهم جذور هذا الخطاب العدائي‮. ‬في‮ ‬الظّاهر‮ ‬يتّخذ هذا الخطاب من الصّراع القائم في‮ ‬منطقة الشّرق الأوسط،‮ ‬وممّا آلت إليه القضيّة الفلسطينيّة والشّعب الفلسطيني،‮ ‬منذ النّكبة وحتّى‮ ‬يومنا هذا،‮ ‬ذرائع لإشاعة الكراهية تجاه اليهود بعامّة، وليس تجاه الصّهيونيّة الّتي قد يكون أمر إدانتها مُبرّرًا ومبارَكًا في آن معًا. ‮ ‬غير أنّنا لو حاولنا أن نتلمّس ما‮ ‬يستتر وراء هذا الخطاب،‮ ‬فما من‮ ‬شكّ‮ ‬في‮ ‬أنّنا سنرى أنّ‮ ‬هذه الذّرائع هي‮ ‬القشور الّتي‮ ‬تطفو على السّطح فحسب‮. وذلك لأنّ‮ ‬جمر الكراهية‮ ‬لا علاقة له في‮ ‬الحقيقة من قريب أو بعيد بهذه القضيّة الفلسطينيّة ولا بالصّهيونيّة،‮ ‬وإنّما هو‮ ‬يرضع من أصول دينيّة ذات جذور عميقة.‬

***
وقد يعلو السؤال، من أين تنبع هذه الكراهية؟ هل هي‮ ‬نابعةٌ‮ ‬من الحضارة العربيّة القديمة؟ والجواب هو بالطّبع لا‮. ‬فمثلاً‮، ‬لو جهدنا أنفسنا في‮ ‬البحث،‮ ‬في‮ ‬ما وصل إلينا من نصوص تُنسب إلى تلك الفترة الّتي‮ ‬سبقت الإسلام،‮ ‬عن جذور عربيّة جاهليّة لهذه الكراهية‮ ‬لما استطعنا أن نعثر على بذور‮ ‬يمكن أن تنبت منها الكراهية العربيّة تجا ه اليهود‮. ‬فالشّعر الجاهلي،‮ ‬وهو المأثور العربيّ‮ ‬الأكبر الّذي‮ وصل إلينا،‮ ‬هو شعر قبلي‮ ‬في‮ ‬طبيعته وأجوائه،‮ ‬ولا علاقة للكراهية الدينيّة به بأيّ حال من الأحوال‮. ‬ومن هنا،‮ ‬فلا‮ ‬يستطيع أحد أن‮ ‬ينسب كراهية اليهود الشّائعة في‮ ‬الكتابات ووسائل الإعلام العربيّة المعاصرة إلى جذور عميقة في‮ ‬الحضارة العربيّة القديمة. ‮ ‬إذ أنّ‮ ‬الحضارة الوثنيّة العربيّة الّتي‮ ‬سبقت الإسلام تفتقد إلى تلك الشواهد المعبّرة عن هذه الكراهية،‮ ‬أو عن أيّ‮ ‬كراهية أخرى للآخرين،‮ ‬وإن عبّرت عن شيء من هذا فإنّما هي‮ ‬يندرج هذا الشّيء ضمن الصراعات القبليّة المعروفة‮. ‬لهذا السّبب،‮ ‬وبانعدام‮ ‬هذه الشّواهد الجاهليّة العربيّة للكراهية،‮ ‬نجد لزامًا علينا أن نبحث عن جذورها في‮ ‬مكان آخر‮. ‬

***
والسّؤال الّذي لا مناص من طرحه في هذا السّياق هو، هل هنالك هوس إسلامي‮ ‬باليهود واليهوديّة بصورة عامّة؟ وهذا السؤال له ما‮ ‬يبرّره‮. ‬إذ لو أنّ‮ ‬الإسلام قد جاء بدعوة دينيّة جديدة إلى مُشركي‮ ‬العرب،‮ ‬فما شأنه إذن بأهل الكتاب من النّصارى وشقيقهم الأكبر اليهود؟ فمن المعلوم أنّ‮ ‬يهود الجاهليّة لم‮ ‬يحاولوا بثّ‮ ‬الدّعوة اليهوديّة أو بالتّبشير بها بين العرب أو طلب اعتناقها،‮ ‬إذ أنّ‮ ‬اليهوديّة ليست ديانة تبشيريّة بالمرّة. ولذلك فقد عاش اليهود والنّصارى جنبًا إلى جنب مع سائر العرب في الجاهليّة، بل وتطبّعوا بطباع الجاهليّة فبرز منهم شعراء على غرار سائر القبائل، ولا زالت المدارس والجامعات العربيّة من المحيط إلى الخليج تدرّس أشعار الشّعراء النّصارى واليهود كجزء من حضارة العرب القديمة‮ الّتي يفتخرون بها وبحقّ. ‬غير أنّ‮ ‬من‮ ‬يقرأ القرآن والأحاديث النّبويّة‮ ‬يقف مشدوهًا أمام هذا الفيض من‮ ‬الإشارات إلى اليهود واليهوديّة والنّصرانيّة،‮ ‬بدءًا من سورة الفاتحة الّتي‮ ‬تشير إلى‮ "‬المغضوب عليهم والضّالّين‮"‬، أي اليهود والنّصارى كما يُجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم في تفسيرها، و‬إلى آخر القائمة من الآيات والأحاديث الّتي تتطرّق إليهم‮. ‬فما السّبب إذن من وراء هذا الهوس الإسلامي‮ ‬باليهود واليهوديّة؟

***
قبل أن ندخل في تحليل هذه الظّاهرة، دعونا ننظر في‮ ‬هذه الرّواية الّتي يوردها ابن كثير في‮ ‬تفسيره للآية " ‬الّذين‮ ‬يتّبعون الرّسول الأمّي‮ ‬الّذي‮ ‬يجدونه مكتوبًا عندهم في‮ ‬التّوراة والإنجيل‮"، (الأعراف، ٧٥١)‮. نقرأ لدى ابن كثير: "‬روى الإمام أحمد حدّثنا إسماعيل عن الجريري‮ ‬عن أبي‮ ‬صخر العُقيلي‮ ‬حدّثني‮ ‬رجل من الأعراب قال، جلبتُ حلوبةً إلى المدينة في‮ ‬حياة رسول الله ص فلمّا فرغتُ من بيعي‮ ‬قُلتُ لأَلقينّ‮ ‬هذا الرّجلَ فلأسمعنّ‮ ‬منه، فتلقّاني‮ ‬بين أبي‮ ‬بكر وعُمر‮ ‬يمشون، فتبعتهم حتّى أتوا على رجل من اليهود ناشر التّوراة‮ ‬يقرؤها‮ ‬يُعزّي‮ ‬بها نفسَه عن ابنٍ له في‮ ‬المَوْت كأجمل الفتيان وأحسنها،‮ ‬فقال رسول الله ص‮: ‬أنشُدُك بالّذي‮ ‬أنزلَ التّوراة، هل تجد في‮ ‬كتابك هذا صفتي‮ ‬ومخرجي؟ فقال برأسه هكذا،‮ ‬أي‮ ‬لا‮. ‬فقال ابنه أي‮ ‬والّذي‮ ‬أنزل التّوراة إنّا لنجدُ في‮ ‬كتابنا صفتَك ومخرجَك،‮ ‬وإنّي‮ ‬أشهد أن لا إله إلاّ‮ ‬الله وأشهد أنّك رسول الله،‮ ‬فقال أقيموا اليهودي‮ ‬عن أخيكم‮". ‬والسؤال الّذي يعلو من قراءة هذه الرّواية، لماذا يجهد"هذا الرّجل"، بلفظ الأعرابي طبعًا، نفسَه في البحث عن صفته ومخرجه لدى ذاك اليهودي الّذي يُعزّي نفسه بقراءة التّوراة تَرَحُّمًا على روح ابنه الفتى الّذي يصارع الموت؟ ولماذا عندما يردّ اليهودي بأنّه ليس موجودًا في التّوراة كما يزعم، تقوم الرّواية بإنطاق الفتى اليهودي من النّزع الأخير ليشهد بأنّه مذكور في التّوراة، وبإطلاقه الشّهادتين؟
‬ولنقرأ رواية أخرى في‮ ‬تفسير الطبري‮: ‬"عن ابن عبّاس،‮ ‬قال‮: كان رجل من أهل الكتاب آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم،‮ ‬فقال‮: ‬إنّا نجده في‮ ‬التّوراة،‮ ‬وكان أفضل رجل منهم،‮ ‬وأعلمهم بالكتاب‮. ‬فخاصمت اليهود النّبيّ‮ ‬صلّى اللّه عليه وسلّم،‮ ‬فقال‮: ‬أترضون إن‮ ‬يحكم بيني‮ ‬وبينكم عبد الله بن‮ ‬سلام،‮ ‬أتؤمنون؟،‮ ‬قالوا‮: ‬نعم‮. ‬فأرسل إلى عبد اللّه بن سلام،‮ ‬فقال‮: ‬أتشهد أنّي‮ ‬رسول اللّه مكتوبًا في‮ ‬التّوراة والإنجيل؟،‮ ‬قال‮: ‬نعم‮. ‬فأعرضت اليهودُ‮ ‬وأسلم عبد اللّه بن سلام،‮ ‬فهو الّذي‮ ‬قال اللّه جلّ‮ ‬ثناؤه عنه‮: "‬وشهد شاهد من بني‮ ‬إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم‮".‬ مرّة أخرى، وكما نفهم من هذه الرّواية، يحاول الرّسول أن يجد دعمًا لرسالته بالطّلب من عبد الله بن سلام اليهوديّ أن يشهد أنّه مكتوب في التّوراة والإنجيل. كما ‬روى الطبرسي‮ ‬في‮ ‬إعلام الورى‮: "‬عن علي‮ ‬بن إبراهيم القمّي‮ ‬قال،‮ ‬وجاء اليهود،‮ ‬قريظة والنّضير وقينقاع فقالوا‮: ‬يا محمّد إلامَ‮ ‬تدعو؟ قال‮: ‬شهادة أن لا إله إلاّ‮ ‬اللّه،‮ ‬وأنّي‮ ‬رسول اللّه الّذي‮ ‬تجدونني‮ ‬مكتوبًا في‮ ‬التّوراة،‮ ‬والّذي‮ ‬أخبركم به علماؤكم‮."‬،‮ (‬ونفس الحديث في‮ ‬بحار الأنوار ‮٩١ ‬للمجلسي‮).
بل تذهب الرّوايات الإسلاميّة إلى أبعد من ذلك بكثير، فهنالك روايات تستنطق خرافات خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونيّة، فتنسبُ إليها شهادات تفيد بأنّ نجاة بني إسرائيل بشقّ البحر أمامهم للخروج من مصر قد تمّتْ لذكرهم محمّد والولاية لعليّ، كما يذكر المجلسي: "أن موسى لما انتهى إلى البحر أوحى الله عزوجل إليه قل لبني إسرائيل : جَدّدوا توحيدي ، وأمروا بقلوبكم ذكر محمد سيد عبيدي وإمائي ، و أعيدوا على أنفسكم الولاية لعلي أخي محمد وآله الطيبين ، وقولوا : اللهم بجاههم جوّزنا على متن هذا الماء ، فإن الماء يتحول لكم أرضا"، (المجلسي، بحار الأنوار، ج ١٣). بل يذهب الإمام العسكري في تفسيره إلى أنّ اللّه قد تحدّث مع بني إسرائيل في عهد محمّد حول هذا الموضوع:"قال الله عزوجل لبني إسرائيل في عهد محمد (صلى الله عليه وآله): فاذا كان الله تعالى فعل هذا كله بأسلافكم لكرامة محمد (صلى الله عليه وآله)، ودعاء موسى، دعاء تقرب بهم إلى الله أفلا تعقلون أن عليكم الايمان بمحمد وآله إذ قد شاهدتموه الآن؟".

***
صحيح أنّ جميع هذه النّصوص، كغيرها من الرّوايات، هي روايات وليست تاريخًا، ويجب النّظر إليها من هذا المنظار، أي بوصفها نوعًا من الأدب المنقول شفهيًّا كحكايات وخرافات عن أزمان قديمة ليس إلاّ. ناهيك عن أنّ هذه الرّوايات قد شاعت في فترة زمنيّة بعيدة عن دعوى حدوثها. لذلك، ومن هذا المنطلق أيضًا، يجب النّظر إليها على أنّها تواليف أدبيّة، وحكايات يرويها فلان عن علاّن إلى آخره. وفي الحقيقة، لو نظرنا إلى هذه النّصوص بوصفها إبداعًا أدبيًّا، فهنالك الكثير من الجماليّات في هذا الإبداع الأدبي، إذ أنّه يعكس الخيال الواسع الّذي اتّسم به المؤلّفون العرب في إبداعهم للخرافات والأساطير. والأساطير في تاريخ الحضارات البشريّة، إنّما تخفي في ثناياها تلك التّصوّرات الّتي تشكّل ذخيرة أدبيّة في ذهنيّات الأمم الّتي تمنو فيها هذه الأقاصيص، وعليها يبني بنو البشر معتقداتهم الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة.

***
هذه مجرّد أمثلة فقط، إذ أنّ هنالك الكثير الكثير من مثل هذه الرّوايات في‮ ‬القرآن والأحاديث والآيات الّتي تشكّل‮ ‬جزءًا مركزيًّا‮ ‬من هذا التّصوّر الإسلامي‮ ‬للرّسول. أو كما رأى هو نفسه ذلك النّبيّ‮ ‬الّذي‮ ‬تبشّر به التّوراة أو‮ ‬يبشّر به الإنجيل‮. ‬وأنّه جاء مُصدّقاً‮ ‬لما أنزل من قبل على موسى وعيسى، كما في الآية ٣ من آل عمران: "‬نزّل عليك الكتاب بالحقّ‮ ‬مُصدّقًا لما بين‮ ‬يديه وأنزل التّوراة والإنجيل‮".‬ أو "وهو الحقُّ مُصدّقًا لما معهم" (البقرة:٩١). أي أنّ الإسلام ذاته يعترف بأنّه لم يأت بشيء جديد، وإنّما جاء مكمّلاً لليهوديّة والنّصرانيّة كما نزلت على الرّسل من قبل، وكذا أيضًا يرى الرّسول الإسلام بهذه الصّورة: "عن ابن عبّاس قال‮: "‬عن ابن عبّاس،‮ ‬قال‮: ‬أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفرٌ‮ ‬من اليهود فيهم أبو‮ ‬ياسر بن أخطب،‮ ‬ورافع‮ ‬بن أبي‮ ‬رافع،‮ ‬وعازر وزيد وخالد،‮ ‬وإزار بن أبي‮ ‬أزار،‮ ‬وأشيع،‮ ‬فسألوه عمّن‮ ‬يؤمن به من الرُّسل،‮ ‬قال‮: ‬أؤمن باللّه وما أُنزل إلينا،‮ ‬وما‮ ‬أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط،‮ ‬وما أُوتي‮ ‬موسى وعيسى،‮ ‬وما أُوتي‮ ‬النبيّون من ربّهم،‮ ‬لا نفرّق بين أحد منهم ونحن‮ ‬له مسلمون"، (‬الطّبري‮ ‬في‮ ‬تفسير الآية ‮٩٥ ‬من سورة‮ ‬المائدة).

***
حتّى أنّ وسيلة الاجتماع للصلاة في بداية الدّعوة لم تكن سوى وسيلة يهوديّة أو نصرانيّة كما نفهم من الرّواية الّتي يوردها ابن هشام في السّيرة، بعد مقدم الرّسول للمدينة: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها ، بغير دعوة فَهَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقًا كبوق يهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة". أي أنّ المسلمين الأوائل لم يكونوا يعرفون بأيّ الوسائل يدعون للصلاة، ولذلك همّ الرّسول بأن تكون تلك الوسيلة هي ذات الوسيلة الّتي يدعو بها اليهود للصّلاة، أي البوق، ثمّ تغيّر إلى الوسيلة النّصرانيّة، أي النّاقوس.
وتأكيدًا على هذا يذكر ابن هشام رواية أخرى: "قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال، قال لي عطاء، سمعت عبيد بن عمير الليثي يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر بن الخطاب في المنام لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة . فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى ، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك قد سبقك بذلك الوحي".
أي أنّ الوسيلة الأولى للدّعوة للصّلاة كانت بالتّفكير بالبوق اليهودي، كما تذكر الرّواية الأولى، أو هي الوسيلة النّصرانيّة، النّاقوس، كما تذكر الرّواية الثّانية، وذلك لأنّ النّبيّ ص "ائتمر وأصحابه بالنّاقوس للاجتماع للصلاة". لكن تبدّل الأمر بعد أن "رأى عمر بن الخطاب في المنام، لا تجعلوا النّاقوس، بل أذنوا للصّلاة". وبكلمات أخرى، فإنّ الوحي الأوّل، النّاقوس، سابق لمنام ابن الخطّاب الّذي تغيّر في أعقابه الوحي من النّاقوس إلى الأذان.

***
في‮ ‬البداية كان الرّسول متسامحًا مع أهل الكتاب،‮ ‬إذ أنّه رغب في‮ ‬أن‮ ‬يقبله أهل الكتاب بوصفه نبيًّا‮ - ‬أي مسيحًا منتظرًا‮ - ‬كما تبشّر به التّوراة‮. و‬لهذا السّبب أيضًا فقد كانت وجهة الصّلاة لدى المسلمين الأوائل نحو مدينة بيت المقدس بالذّات. ومدينة بيت المقدس هذه‮ ‬هي‮ "‬قبلة اليهود"‮ ‬كما يصفها النّبي‮ ‬محمّد نفسه‮: ‬"عن عكرمة عن ابن عبّاس وأخبرنا عبد الله بن جعفر الزّهري عن عثمان بن محمد الأخنسي وعن غيرهما أنّ رسول الله ص لمّا هاجر إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس ستّة عشر شهرًا، وكان يحبّ أن يصرف إلى الكعبة فقال: يا جبريل وددتُ أنّ الله صرفَ وجهي عن قبلة يهود..."، (طبقات ابن سعد، ج١، ص ٢٤١). فلماذا يُصلّي إذن إلى قبلة اليهود كما يُعرّفها هو نفسه؟ أليس في ذلك دلالة على أنّه رأى نفسه المسيح المنتظر الّذي تبشّر به التّوراة؟

***
والرّسول نفسه يؤكّد على كون إيمانه هو ذات الإيمان اليهودي والنّصراني. فعندما سأله نفر من اليهود في المدينة بشأن إيمانه، قال: "‬أؤمن باللّه وما أُنزل إلينا،‮ ‬وما‮ ‬أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط،‮ ‬وما أُوتي‮ ‬موسى وعيسى... فلمّا ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا‮: ‬لا نؤمن بمن آمن به‮"، (‬الطّبري‮ ‬في‮ ‬تفسير الآية ‮٩٥ ‬من سورة‮ ‬المائدة).
هنالك شيء آخر يتّضح من هذه الرّواية وهو أنّ ‬رفض اليهود الإيمان بمحمّد مبنيّ‮ ‬على ذات الرّفض اليهودي‮ ‬لعيسى: "لا نؤمن بمن آمن به"،‮ ‬أي‮ ‬عدم قبولهم بعيسى مسيحًا‮. ‬ولذلك أيضًا‮ ‬يفهم الإسلام الأسس الّتي‮ ‬تأسّست عليها العداوة المسيحيّة لليهود،‮ ‬ويعزو هذه العداوة الأبديّة بين الفريقين إلى‮ ‬هذا الرّفض لرسالة عيسى‮: "‬وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى‮ ‬يوم القيامة‮"، ‬أي‮ ‬العداوة بين اليهود والنّصارى‮ (‬تفسير الطّبري‮لآية ‬المائدة‮: ٤٦)‬. أي أنّ البداية كانت هنالك محاولات حثيثة لاستمالة اليهود إلى اعتناق الإسلام. أصداء من تلك المحاولات نسمعها أيضًا في هذه الأبيات الشّعريّة لأحد شعراء المدينة من بني قريظة:

"دعتني إلى الإسلام يومَ لقيتُها ** فَقُلْتُ لها لا بَلْ تَعالَيْ تَهَوّدِي
فَنحنُ على تَوراةِ مُوسى ودينه ** ونِعْمَ، لعمري الدّينُ، دينُ مُحمّدِ
كلانا يَرَى أنّ الرّشادَةَ دينُهُ ** وَمَنْ يُهْدَ أَبْوابَ المَراشدِ يَرْشُدِ".

***
بعد إصرار عامّة النّصارى واليهود على البقاء على إيمانهم وعدم الانسياق وراء الإسلام، تبدلّت الآية فبدأت تظهر علامات العداء بوضوح في القرآن: "‬وإذ قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أُنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقُّ‮ ‬مُصَدّقًا لما معهم،‮ ‬قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين‮" (‬البقرة‮: ١٩)‬، أو: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" (المائدة). ثمّ في الحديث: أخرج الإمام مسلم في‮ ‬صحيحه‮: "‬والّذي‮ ‬نفس محمّد بيده،‮ ‬لا‮ ‬يسمع بي‮ ‬أحد من هذه الأمّة‮ ‬يهودي‮ ‬ولا نصراني‮ ‬ثم‮ ‬يموت ولم‮ ‬يؤمن بالّذي‮ ‬أُرسلتُ‮ ‬به إلاّ‮ ‬كان من أهل النّار‮". ‬وهذا الحديث قد جاء،‮ ‬كما‮ ‬يجمع عليه أغلب المفسّرين،‮ ‬تصديقًا للآية من‮ ‬سورة هود‮‬‮: "‬ومن‮ ‬يكفر به من الأحزاب‮"‬،‮ ‬والأحزاب هم الكفّار،‮ ‬أو اليهود والنّصارى كما روي‮ ‬عن قتادة،‮ ‬أو الملل كلّها،‮ ‬كما‮ ‬يقول ابن عبّاس‮. (‬السّيوطي،‮ ‬الدّرّ‮ ‬المنثور‮). وهكذا بدأت تظهر أحاديث القتال،‮ ‬كما رواها الكثيرون ومنهم البخاري‮ ‬ومسلم‮: "‬أمرت أن أقاتل النّاس حتّى‮ ‬يقولوا لا إله إلاّ‮ ‬اللّه،‮ ‬فمن قال لا إله إلاّ‮ ‬اللّه عصم منّي‮ ‬ماله ونفسه‮". ‬وهكذا أيضًا بدأت تنزل آيات القتال الّتي‮ ‬نسخت ما قبلها،‮ ‬كما في‮ ‬سورة التّوبة ‮٨٢ (‬مدنيّة‮): "‬قاتلوا الّذين لا‮ ‬يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا‮ ‬يُحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله،‮ ‬ولا‮ ‬يدينون دين الحقّ‮ ‬من الّذين أوتوا الكتاب حتّى‮ ‬يُعطوا الجزية عن‮ ‬يد وهم صاغرون‮". ‬

***
ليس فقط أنّ الإسلام تأسّس على اليهوديّة، أو أنّه "خرج من رحم يهودي"، كما وصفه الأستاذ نبيل فيّاض في مقالة له بعنوان "ما هو الإسلام" بل ويُضيف: "ورغم كل العدائيّة التي يظهرها شيوخ السنّة لليهود، إلا أنك تشعر بالمعاشرة وكأنّ حاخامًا صغيراً يسكن داخل كل شيخ، يبرمجه بأسلوب حاسوبي، ويتحكّم في تصرفاته منذ ولادته وحتى مماته. وحده عنصر الزمن، هذا العنصر السيء السمعة، هو الذي يجعل الشيخ يشعر أنّه نقيض الحاخام مع أنه النتيجة الطبيعية له". (نبيل فياض، ما هو الإسلام).
بل يمكننا أن نُضيف إلى تشخيص نبيل فيّاض هذا شيئًا آخر، فكما يذكر ذلك ابن قيّم الجوزيّة صراحةً،‮ فإنّ ‬العنف الإسلامي ذاته ‬قد تأسّس على ذات الأسس الّتي‮ ‬تأسّس عليها العنف التّوراتي. ‬فها هو ابن قيّم الجوزيّة ‬يهزأ‮ ‬من النّصارى لعدم نزوعهم إلى العنف،‮ ‬فيقول‮: "‬والنّصارى تعيبُ‮ ‬من‮ ‬يُقاتل الكفّار بالسّيف،‮ ‬وفيهم من‮ ‬يجعل هذا من أسباب التّنفير عن محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم‮. ‬ولجهلهم وضلالهم لا‮ ‬يعلمون أنّ‮ ‬موسى قاتل الكفّار،‮ ‬وبعده‮ ‬يوشع بن نون،‮ ‬وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء‮"‬. ‮ ولذلك لا‮ ‬يجد ابن قيّم الجوزيّة حرجًا في‮ ‬التّصريح بذلك العنف الإسلامي‮ ‬علنًا ودون مواربة،‮ ‬فيقول‮: "‬وليس متقلّد السّيف بعد داود من الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم،‮ ‬وهو الّذي‮ ‬خرّت الأمم تحته،‮ ‬وقُرنت شرائعه بالهيبة‮: ‬إمّا القُبول،‮ ‬وإمّا الجزية،‮ ‬وإمّا السّيف‮". (‬ابن قيّم الجوزية،‮ ‬مختصر هداية الحيارى في‮ ‬الرّدّ‮ ‬على اليهود والنّصارى‮).‬
إنّ هذه النّظرة العدائيّة للآخرين ما زالت قائمة لدى الكثير من المسلمين وفقهائهم حتّى هذه اللّحظة، كما يقول بذلك ابن باز صراحة: "‬الطرّيق إلى اللّه واحد وهو دين الإسلام‮...‬وهو الّذي‮ ‬بعث اللّه به نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم‮...‬وأنّ‮ ‬جميع ما خالفه من‮ ‬يهوديّة أو نصرانيّة أو مجوسيّة أو وثنيّة أو‮ ‬غير ذلك من نحل الكفر كلّه باطل وليس طريقًا‮ ‬يوصل إلى اللّه ولا‮ ‬يوصل‮ ‬إلى جنّته وإنّما‮ ‬يوصل إلى‮ ‬غضبه وعذابه،‮ ‬كما قال اللّه تعالى‮: ‬ومن‮ ‬يبتغِ‮ ‬غير الإسلام دينًا فلن‮ ‬يُقبَل منه وهو في‮ ‬الآخرة من الخاسرين‮"، (‬مجموع فتاوى ابن باز‮). هذه هي‮ ‬حقيقة النّظرة الإسلاميّة، ماضيًا وحاضرًا، للآخرين‮ ‬يهودًا كانوا أم نصارى أم من أهل الملل الأخرى. ‬حقيقة مرّة؟ ربّما،‮ ‬لكنّها تبقى هي‮ ‬الحقيقة تبرز من خلال هذه النّصوص.


ما هو الحلّ لهذا الإشكاليّة، إذن؟
من الصّعب إيجاد حلول سهلة لهذه الإشكاليّات، لأنّها تنبع من معتقدات متجذّرة في ذهنيّات الكثير من تجّار الدّين الّذين يتلاعبون بعواطف البشر مستغلّين الجهل المطبق على ديار العرب. والحلّ‮ ‬الأوحد لهذه الإشكاليّة‮ ‬يمكن في بذل المجهود من أجل توعية الشّعوب إلى ما فيه خيرها. لقد تطوّرت الأمم وشعوب العالم بعد أن فصلت الدّين عن الدّولة، ولذلك لا حلّ أمام العرب سوى السّلوك في هذه الطّريق أيضًا على غرار شعوب العالم المتحضّر. أمّا تلك النّصوص التّراثيّة فيجب وضعها في سياق تاريخي مضى وانقضى، ودراستها من هذا المنطلق فحسب. يجب التّعامل الآن مع سائر البشريّة من خلال المنظمومات الأمميّة والأخلاق الإنسانيّة الّتي‮ ‬يجمع عليها بنو الشر بوصفها أساسًا للعلاقة بين الأفراد والمجتمعات أبناء هذه ‮البشريّة الواحدة على اختلاف مللها ونحلها. ‬وبكلمات أخرى،‮ ‬ثمّة حاجة إلى ثورة فكريّة تصحيحيّة إسلاميّة في‮ ‬صلب هذه المفاهيم.

خلاصة‮:‬
ممّا أوردنا في سلسلة المقالات هذه‮ ‬يتّضح أن جذور الكراهيّة هذه قائمة في صلب هذه الدّيانات التّوحيديّة، من يهوديّة، نصرانيّة وإسلام، بما فيها الطوائف المنبثقة من هذه العقائد كالدرزيّة، الإسماعيلية والعلوية وغيرها)، والّتي تُصرّ جميعها على احتكار الإله والحقيقة لنفسها، وفي الوقت ذاته تُلغي غيرها على الإطلاق من خلال سلسلة من الخرافات والأساطير الّتي ابتدعها النّاس في هذه البقعة من الكرة الأرضيّة. لا نستطيع العثور على مثيل لهذه الكراهيات في نصوص ديانات أخرى. إنّ‮ ‬مردّ‮ ‬هذه الكراهيّة البغيضة هو هذه الأيديولوجيّة الوحدانيّة القبليّة المحتكرة للحقيقة في جوهرها، ‬وقد‮ ‬انطلقت من هذه البيئة الصّحراويّة وطفقت تفرض تَصحُّرًا عقليًّا على بني‮ ‬البشر. ‬إنّ‮ ‬الكراهية المبنيّة على هذه المعتقدات والأيديولوجيّات والأساطير الدّينيّة تشكّلُ‮ ‬في‮ ‬مرحلة معيّنة من تاريخ البشر نوعًا‮ ‬من الأمراض النّفسيّة الّتي‮ ‬يصعب،‮ ‬إن لم‮ ‬يكن من المحال،‮ ‬علاجها‮. ‬ فكم من الدّماء سُفكت باسم هذه العقائد على مرّ التّاريخ؟‮
لذلك آن الأوان إلى ترجيح كفّة المحبّة على كفّة الكراهية، لأنّ الحبّ في مرتبة أسمى من العبادة، كما قال يحيى بن معاذ: "مثقالُ خردلة من الحبّ، أَحَبُّ إليّ من عبادة سبعين سنة بلا حُبّ". أمّا حدّ هذه المحبّة فقد أوجزه سريّ السّقطي: "لا تصلحُ المحبّةُ بين اثنين حتّى يقول الواحد للآخر: يا أنا" (الرّسالة القشيريّة في علم التصوّف).
ولهذا أيضًا، إذا ما توخّينا الخير لأمّتنا العربيّة، على اختلاف طوائفها وإثنيّاتها ومعتقداتها، بغية دفعها إلى مشاركة البشريّة في ركب الرقيّ والتطوُّر، وجب علينا أن ننظر عميقًا في‮ ‬دواخلنا، ومساءلة أنفسنا ومعتقداتنا جميعًا. فكلّ ما يدعو إلى المحبّة والأخوّة البشريّة نأخذ به ونشيعه بين النّاس، وكلّ ما يدعو إلى الكراهية والعنصريّة والبغضاء يجب علينا نبذه مهما كان مصدره. وأخيرًا، فلنجعل العقلَ،‮ ‬والعقل‮ ‬وحده،‮ ‬نبراسنا وهادينا إلى الحقّ والحقيقة، إذ أنّ "أغنى الغنى العقل، وأكبرُ الفقر الحمق"، كما روي عن عليّ. فالعقل، في نهاية المطاف، هو وليّ التّوفيق، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان.

[email protected]

هل الكراهية عقيدة توحيديّة؟

سؤال الهويّة اليهوديّة والأغيار

جذور الكراهية المسيحيّة