مع أنّ الانتخابات الإسرائيليّة هي انتخابات ديمقراطيّة وسريّة الطّابع، فها أنا أصرّح على الملأ بأنّي سأمنح صوتي في هذه الانتخابات للجبهة الديمقراطيّة للسّلام والمساواة. جدير بالذّكر أوّلاً، أنّي لم أكن في يوم من الأيّام عضوًا في الحزب الشّيوعي أو في أيّ حزب آخر. ومع ذلك، ومنذ أن بلغت السنّ القانونيّة الّتي تتيح لي حقّ التّصويت، فقد أعطيت صوتي للجبهة الدّيمقراطيّة والحزب الشّيوعي طوال الدّورات الانتخابيّة الماضيّة، ما عدا مرّتين: واحدة منحتُ فيها صوتي لقائمة أخرى ظهرت على السّاحة الحزبيّة، وقد اختفت هذه عن السّاحة منذ زمن. لقد فعلتُ ذلك آنئذ عقابًا منّي لنهج الجبهة الديمقراطيّة في حينه. والمرّة الثّانية في الإنتخابات السّابقة حين اعتكفتُ في البيت ولم أذهب لأدلي بصوتي. وقد فعلتُ ذلك مرّة أخرى كوسيلة عقاب للجبهة الدّيمقراطيّة لائتلافها مع بعض الشخصيّات الّتي لا تملك رصيدًا جماهيريًّا سوى كونها بدعة إعلاميّة وصحفيّة، إضافة إلى كونها بمثابة أنبوب اتّصال، أي ساعي بريد ينقل وجهات النّظر بين عرفات والحكومة الإسرائيليّة ذهابًا وإيابًا من جهة واحدة، وما يشبه سيمولاطورًا عرفاتيًّا (أي ما يشبه ناطقًا بلسانه) في وسائل الإعلام العبريّة ليس إلا من الجهة الأخرى.
والآن وبعد أن اختفى هذا الأنبوب من قائمة الجبهة الديمقراطية، تبدو لي الجبهة بكلّ ما يمثّله رصيدها في حياة وواقع الجماهير العربيّة في إسرائيل منذ النّكبة، وكذلك بما تمثّله من توجّهات على الصّعيد الإسرائيلي العام، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، هي الخيار الأقلّ سوءًا، ولذلك سأمنح هذا الخيار صوتي في هذه الانتخابات المقبلة. أقول، لا زالت في جعبتي مآخذ على الجبهة الدّيمقراطيّة، أوّل هذه المآخذ عدم وضع امرأة عربيّة في مكان مضمون في القائمة، وهناك أمور أخرى، ليس هنا المجال لتفصيلها. في الحقيقة هذه هي طبيعة الانتخابات على العموم حيث لا يوجد حزب مثاليّ يمكن أن أتعاطف معه مئة بالمئة. ولكن ورغم هذه المآخذ والتّحفّظات، فإنّي سأمنح الجبهة الدّيمقراطيّة صوتي الانتخابي لأنّها الأقلّ سوءًا من بين القوائم القائمة على ساحة الانتخابات الإسرائيليّة.
***
وقد يسأل سائل، هنالك قائمتان أخريان تعرضان نفسيهما على السّاحة كممثّلتين للجمهور العربي في إسرائيل، فلماذا الجبهة الدّيمقراطيّة بالذّات؟ ورغم أنّ السؤال سؤال وجيه، وقد تبدو الإجابة عليه صعبة، لأوّل وهلة، غير أنّ الإجابة عليه في غاية البساطة.
يجب أن لا يغيب عن ذهننا أنّ مجتمعنا الفلسطيني الإسرائيلي مكوّن من ثلاث طوائف دينيّة، إسلاميّة، مسيحيّة ودرزيّة. هذه هي طبيعة مجتمعنا، ولا يمكن أن ندسّ رؤوسنا في الرّمال متجاهلين هذه الحقيقة، وإذا ما رغبنا في الوصول إلى بناء مجتمع متجانس ذي هموم مشتركة فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نعرض عليه قائمة دينيّة صرفة. وهكذا، ومن هذا المنطلق بالذّات، يسقط خيار انتخاب القائمة الإسلاميّة ذات الأيديولوجيّة والأجندة المختلفة والمناقضة للعرب العلمانيين أو للعرب من أبناء الطّوائف الأخرى. بل أكثر من ذلك، أستطيع أن أقول، إنّ ظهور الحركة الإسلاميّة بين أبناء الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل كان له تأثير بارز في تفكيك لحمة ووحدة هذه الأقليّة خلال السّنوات الماضية. فالحركة الإسلاميّة ذات الأجندة الدّينيّة لا يمكن أن تمثّل عربيًّا مسيحيًّا، أو درزيًّا، أو مسلمًا علمانيًّا، وبظهورها على السّاحة السّياسيّة فقد أدّت إلى تقوقع شرائح كبيرة من أبناء سائر الطّوائف في شرنقات طائفيّة هي أقرب إليها. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن لمسيحي عربي أن يعطي صوته لحركة أيديولوجيّة دينيّة تؤمن أنّ quot;الضّالّينquot;، من quot;سورة الفاتحةquot; والّتي يتلوها المسلم المؤمن سبع عشرة مرّة في اليوم، هم الكفّار النّصارى؟ ناهيك عن الجوانب الاجتماعيّة والثّقافية الأخرى الّتي تتناقض مع تقدّم البشريّة.
***
وقد يحاول السّائل أن يزيد من صعوبة السؤال قائلاً، إذا كان ما تقول فيه شيء من الحقيقة، فما بالك لا تذهب إلى خيار قائمة تجمّع عزمي بشارة؟ والإجابة على هذه المسألة هي أبسط ممّا قد يتوقّع البعض. صحيح أنّ الشّعارات المطروحة قد تبدو جذّابة لصنف معيّن من النّاس أستطيع أن أصفه بمصطلح موجز واحد وهو: quot;مراهقو العروبةquot;، خصوصًا في وضع الصّراع القائم لدينا. غير أنّ الشّعارات شيء والواقع شيء آخر، وحال هؤلاء أشبه بحال quot;الذّاهبين إلى الحجّ بينما النّاس قافلون في رحلة العودةquot;. هذه المراهقات العروبيّة لم تجلب سوى الكوارث على هذه الأمّة من مشرق الأرض إلى مغربها. هذا ناهيك أنّ تجمّع عزمي بشارة قد عيّن نفسه ناطقًا باسم البعث الفاشي في السّاحة الإسرائيليّة، متناسيًا ما يعانيه الشّعب السّوري من هذه الطّغمة القبليّة الحاكمة في الشّام. ويكفي أن نقتبس هنا ما كتبه الكاتب والنّاقد السّوري صبحي حديدي من رأي في عزمي بشارة، ففي كلامه ما يفيد القارئ النّبيه.
quot;ذات يوم غير بعيد، لم يكن غريباً على الذين سنحت لهم فرصة مشاهدة الرجل [أي عزمي بشارة] في برنامج laquo;حوار العمرraquo; على الـ LBC، والإصغاء إليه يتهكم على المثقفين السوريين ويسخر من بياناتهم ويؤكد جهلهم بمعنى الديمقراطية، أن يفركوا الأعين قليلاً قبل أن يتساءلوا: أهذا وزير الإعلام السوري، أم عزمي بشارة؟ أهذا ناطق باسم حزب البعث الحاكم في سوريا، أم زعيم quot;التجمع الوطني الديموقراطيquot; في فلسطين [أي إسرائيل، لأن بعض العرب يجدون صعوبة في ذكر اسم إسرائيل في هذا السّياق، س.م.]؟ أهذا لسان حال الاستبداد والقمع، أم داعية الديموقراطية وحقوق الإنسان؟ والرجل [أي عزمي بشارة] الذي أتاحت له الديموقراطية الإسرائيلية، أيًّا تكن اعتراضات بشارة واعتراضاتنا عليها، أن يصل إلى الكنيست وأن يجاهر بآرائه في الناصرة كما في عمّان وبيروت والقرداحة، وأن يتحدّى العنصرية الصهيونية من داخل قوانينها... كيف يحقّ له أن يسخر من أشقائه المثقفين السوريين إذا كانوا يطالبون بعُشْر الحقوق العامّة التي تجعل من عزمي بشارة عزمي بشارة؟... وهو الذي استكثر على المثقفين السوريين أنهم يتطلعون إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان. أم أن النقب والمثلث والجليل جديرة بالديموقراطية، ودمشق وحلب وحمص ليست جديرة إلاّ بالجمهوريات الوراثية وحكم الحزب الواحد الأوحد؟quot;. ( صبحي الحديدي: quot;النائب تويني والنائب بشارة: الفارق السوريquot; (القدس العربي 21 ديسمبر2005).
هذا الكلام الواضح في ما يتعلّق بعزمي بشارة، يصدر عن واحد يعرف ببواطن الدّاخل السّوري، وهو كذلك واحد من أبرز المثقّفين السّوريّين، فإذا كان هذا هو رأيه الصّريح في عزمي بشارة وتوجّهاته، أفلا يكفي هذا الكلام الواضح النّاضح لأن نسقط خيار هذا التّجمّع الزّائف الكاذب من حسابات تصويتنا له في الانتخابات الإسرائيليّة القريبة؟
لقد طرح حزب التّجمّع هذا نفسه، إذن، ناطقًا بلسان البعث الفاشي من على منصّة الجماهير العربيّة في إسرائيل، وبعد أن أقسم يمين الولاء لدولة إسرائيل في الكنيست الإسرائيلي. وللقرّاء العرب الّذين لا يعرفون ببواطن الأمور لدينا، هاكم نصّ يمين الولاء الّذي يُقْسمه أعضاء الكنيست مع ترسيمهم نوّابًا في أوّل جلسة تُعقد إثر الانتخابات، في البرلمان الإسرائيلي: quot;أتعهّدُ بالولاء لدولة إسرائيل، وبأن أنفّذ بإيمان صادق مبعوثيّتي في الكنيستquot;. هذا هو نصّ القَسَم، فهل تفهمون معنى هذا القَسَم، الّذي أقسمه ويقسمه كلّ النّوّاب في الكنيست، بمن فيهم quot;مراهقو العروبةquot;؟ إذن، على مراهقي العروبة هؤلاء، والّذين لا يعرفون من العروبة غير الشّعارات، الإجابة على تساؤل واحد: فإمّا أنّ أيْمانكم وتعهّداتكم كاذبة، وإمّا أنّها نابعة من quot;إيمان صادقquot;؟ قرّروا أنتم، ثمّ أخبرونا علانية.
***
ومن جهة أخرى يمكننا أن نضيف للقارئ النّبيه شيئًا آخر. عندما اعترفت مصر،أمّ الدّنيا، بإسرائيل، فقد اعترفت بها شاملةً حاويةً للأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل كجزء من الكيان السّياسي الإسرائيلي ومن الدّولة الإسرائيليّة. وهكذا فعلت المملكة الأردنيّة عندما اعترفت بإسرائيل، وهكذا أيضًا فعلت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وهكذا ستفعل، عاجلاً أم آجلاً، كلّ الدّول العربيّة، بما فيها سورية ولبنان (هل نسيتم قرارات قمّة بيروت؟)، إلى آخر قائمة مضارب العربان.
من هنا، ليس أمام النّاخب العربي في إسرائيل، ونقصد بالنّاخب العربي ذلك الّذي يبتغي صادقًا دفع مصالح الجماهير العربيّة في إسرائيل، سوى خيار الجبهة الدّيمقراطيّة. إذ أنّ خيار الجبهة الاستراتيجي وعلى المدى البعيد هو الحفاظ على الحقوق الجمعيّة العربيّة من جهة، والانفتاح على المجتمع اليهودي في إسرائيل من الجهة الأخرى، إذ لن تتمكّن هذه الأقليّة من الحفاظ على كيانها إلاّ من خلال هذه الشّراكة مع شرائح أخرى في المجتمع الإسرائيلي. لهذا السّبب تشمل قائمة الجبهة الدّيمقراطيّة كلّ أطياف الطّوائف والاثنيّات الإسرائيليّة، يهوديّة وعربيّة. هذه الرّؤيا الاستراتيجيّة لا يمثّلها على السّاحة الإسرائيليّة إلاّ قائمة الجبهة الدّيمقراطيّة. صحيح أنّ هذه الطّريق ليست سهلة، كما أنّها لا زالت تحتوي على كثير من المطبّات. غير أنّها، في نهاية المطاف، الطّريق الوحيدة الّتي لا مناص من المضيّ فيها، لأنّها الوحيدة الّتي تُفضي إلى بصيص النّور في نهاية النّفق.
التعليقات