في عام 249 م أحاط الرعاع بابنة أحد أعضاء المجلس البلدي الهامين في مدينة الإسكندرية لأنها كانت تحمل أفكاراً خطيرة صرحت بها فهجموا عليها فحطموا أسنانها ثم جمعوا حطباً أوقدوا به ناراً عظيمة ثم طلبوا منها التوبة عن الأفكار التي تعتنقها وإلا كان مصيرها النار. فألقت المرأة نفسها في النار فاستراحت وأراحت. ووقف القوم يتأملونها بمتعة وهي تشوى ببطء على النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بهذه الشهيدة شهود. روى هذه الواقعة المؤرخ (أويسبيوس Eusebius) في كتاب (تاريخ الطب) وبعد استشهادها بعشرة قرون في القرن الثالث عشر للميلاد بدأت شخصيتها الثقافية تنتشر عبر أوربا وفي عام 1634م أصبحت (أبولونيا Apollonia) قديسة يتشفع بها الناس لمعالجة وجع الأسنان؟
هذه القصة ليست الوحيدة في التاريخ الإنساني التي تحكي حماقة الجنس البشري وجدلية القوة والفكرة. فقد تم افتتاح القرن السابع عشر بنار متوهجة أنارت أفق أوربا حينما أحرق الفيلسوف الإيطالي (جيوردانو برونو) في 17 فبراير من عام 1600م حياً في روما وعمره 52 سنة بعد اعتقال مضني دام ثماني سنوات في الفاتيكان والخضوع لكل أنواع الإذلال والتحقيق الاستخباراتي ليتم اصطياده برأيه الكوسمولوجي عن كون بدون حدود ومجرات لانهائية تتزاحم في الملأ العلوي:(الأرض ليست مركز العالم ولا الشمس وفيما وراء العالم الذي نراه عوالم أخرى إلى مالا نهاية وربما كانت هناك كواكب كثيرة تسكنها كائنات حية ذكية فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟). وفي الوقت الذي أعادت الكنيسة الاعتبار لغاليلو حرمت منه برونو حتى اليوم.
وحرق (برونو) و(أبولونيا) من أجل أفكارهم ليست نماذج قليلة أو نادرة ففي الثالث من نوفمبر 1411 م أُعتقل المصلح الديني (جان هوس JAN HUS) التشيكي وأُخضع لحفلة تحقيق جهنمية من أجل كتاباته وأُدين في 6 يوليو 1415 م بسبب ثلاثين جملة اعتبرت (هرطقة) وحكم بأن يحرق (حياً) على النار ذات الوقود ونفذ الحكم في نفس يوم إصداره .
وفي 27 أكتوبر 1553 م أدين الطبيب الاسباني (ميشيل سرفيتوس MICHEL SERVETIOS) مكتشف الدورة الدموية الصغرى بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين فلا يعقل تلقين العقيدة لمن لا يعقل وتكليف اللامسؤول بالمسؤولية أو أن الرب انشطر إلى ثلاثة أجزاء بدون أن ينشطر؟ وكان خلف إصدار الحكم (كالفن) المصلح الديني في سويسرا ولم تشفع له دموعه وتوسلاته في تحويل الحكم إلى الشنق أو قطع الرأس فأُحرق (حياً) حرصاً على مزيد من الطهارة ولم يرمش لكالفن رمش عين وتقرب بدمه إلى الله مرتاحاً أنه نظف الأرض من هرطيق.
وفي 21 آذار 1556 م كان المصلح الديني البريطاني (توماس كرامر THOMAS CRAMMER) يشغل منصب (أسقف كانتربري) أول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنكليزية يضبط على آرائه الخطيرة في الإصلاح الديني ويساق إلى المحرقة ليشوى على نار هادئة.
وكانت احتفالات حرق الهراطقة في (بلد الوليدValadvalid) بحضور الملك فيليب الأسباني أمر روتيني.
ويحصي فولتير إحراق ملايين الناس من أجل أفكارهم بدعوى السحر. وكادت أم الفلكي الألماني (كبلر) أن تنتهي مشوية على الحطب مثل أي فروج.
ويقيت الكنيسة والرعاع لألف سنة يطاردون القطط والساحرات ويحرقونهم مع الكتب في الساحات العامة. في الوقت الذي كان الناس يشترون تذاكر لدخول الجنة كما يعالجون السعال الديكي بلبن الحمير. وحسب تقديرات مجلة در شبيجل الألمانية فقد أحرق ما بين عامي 1450 - 1750 م مليون امرأة بتهمة السحر. إلى درجة أن يدلي رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا البولوني(كارول فويتايلا KAROL WOJTYLA) يوحنا بولس الثاني (PAUL II) بهذا التصريح:quot; إن ما حدث في تاريخ الكنيسة لا يمكن السكوت عنه بحال. إنه عار كبير الذي حدث. كيف يمكن أن تتم انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان على هذه الصورة من الوحشية باسم الدين وحفظ العقيدة؟ كيف يمكن للإنسان أن يسكت عن هذه الألوان من ممارسة العنف في صورة حروب دينية تشن، ومحاكم تفتيش تصب العذاب على البشر باسم الإيمان؟ إن ما فعلته محاكم تفتيش العصور الوسطى كان التمهيد الفعلي لقيام أنظمة ( توتاليتارية TOTALITARISM ) في القرن العشرين وأنظمتها القمعية من نموذج (الجستابو GESTAPO) النازي و جهاز الاستخبارات الـ (K.G.B. ) الشيوعي و (STASI) استخبارات ألمانيا الشرقية.
وبقي السجل الأسود للكتب الممنوعة في الكنيسة ساري المفعول حتى الخمسينات من القرن العشرين قبل أن يفتح الفاتيكان الباب للاطلاع والنقد لأكثر من أربعة آلاف ملف سري تعود لمحاكم التفتيش واستخبارات الكنيسة. ولكن سجل الكتب الممنوعة ما زال ساري المفعول في العالم العربي حتى إشعار آخر.
وقصة التضحية بالإنسان من أجل أفكاره ليست امتيازا للكنيسة بل هي مرض إنساني عام نجده في كل الثقافات. وفي سورة إبراهيم عرض بانوراما لكل الرسل ولكل الأقوام الذين وضعوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنّا كفرنا بكم وإن لم تنتهوا عما تقولون لنرجمنكم.
هكذا سمم الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) غيلة بالزرنيخ بعد أن هرب إلى برد السويد على يد الكنيسة. ولم تطبع بعض كتب اسبينوزا إلا بعد موته في ظروف مخيفة أُلقي القبض فيها على مفكر معاصر له هو (ادريان كويرباغ) حاول نشر آراء مماثلة له فحكم بالسجن عشر سنوات مات بعد قضاء ثمانية عشر شهراً منها. وعندما أراد سبينوزا نشر كتابه (الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي) أشاع عنه رجال الدين أنه يريد نشر كتاب يقيم فيه الدليل على عدم وجود الله. وتمت محاولة اغتياله بطعنة سكين في الرقبة ثم مات منفوثاً بالسل مطارداً بقرار لعنة رهيب quot; أن يكون مغضوباً وملعونا نهارا وليلا وفي نومه وصبحه. ملعونا في ذهابه وإيابه وخروجه ودخوله. وأن لا يشمله الله بعفوه قط. وأن يخلص أولي الأمر منه وأمثاله. وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحدة وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع وأن لا يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانهquot;.
وتتكرر قصة سبنوزا في أيامنا على صورة كتاب يناقش (النزعة المادية في العالم الإسلامي) فيصف مفكراً مسلماً هكذا:(مادي ماركسي وضعي دارويني قدري معتزلي باطني شيعي ماسوني غاندوي يعتنق المادية وينشر الزندقة ويدعو لها بصراحة)؟!
وهكذا فرّ أرسطو من أثينا بجلده وضحت أثينا عام 399 قبل الميلاد بأعظم فلتة عقلية في التاريخ البشري سقراط وهو شيخ مسن بدعوى أن يفسد عقول الشبيبة بفكرة الوحدانية. وصوت مجلس أثينا بأغلبية الأصوات أن يتجرع سم الشوكران فبكت زوجته وقالت: ولكنك بريء؟ قال لها: ياكزانتبي وهل يسرك أن أعدم وأنا مدان؟ وعندما نصحه البعض بالهرب ومكنوه من ذلك قال: العيب أن تهرب مما هو ليس بعيب.
التاريخ الإنساني كما نرى حافل بتعذيب الإنسان وحرقه وقتله من أجل رأيه فليس غريباً أن يفرد القرآن سورة خاصة لهذا الفصل المروع بعنوان (البروج) عندما تلقى الجموع في خنادق الموت تحرق بالنار من أجل آرائهم. ولا يشذ تاريخنا عن هذه القاعدة فقد ذبح تيار المعتزلة العقلاني وساد التيار الدوغمائي المتشدد المعروف بأهل السنة والجماعة وهو ليس بسنة ولا جماعة بل تسلط تيار نقلي متحجر حجر على العقل وأهله نفى (ابن رشد) إلى قرية الليسانة اليهودية. وذكر صاحب كتاب (الذيل والتكملة) ابن عبد الملك نص الإدانة الكاملة له بأنه من quot;قوم خاضوا في بحور الأوهام فخلدوا في العالم صحفاً مالها من خلاق مسودة المعاني والأوراق ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب قصارى همهم بث عقاربهم في الآفاق فإحذروا هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم إنه منعم كريمquot; ثم طرد من المسجد الكبير في قرطبة وابنه ومات شيخاً محطم القلب ليطرد بعدها خلال جيل واحد كل أهل قرطبة في عقاب كوني جماعي؛ فلا يبقى في المسجد إلا المحاريب تبكي وهي صامتة والمنابر ترثي وهي عيدان.
وقتل (شهاب الدين السهروردي) بفتوى من المتعصبين ووصفه ابن أبي اصيبعة بأنه كان (أوحد في العلوم الحكمية بارعاً في الأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة) ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد بعد أن ناظرهم في حلب فأفحمهم فعملوا محضراً بكفره ورفعوها إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي بدمشق وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه فكان لهم ما أرادوا فقتل سنة 587 هـ عن 36 عاماً وأخذ لقب (الشاب المقتول) في التاريخ.
وكان مصير الحلاَّج أشنع فضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وأحرق.
واعتقل ابن تيميه في سجن القلعة وحرم من القرطاس والقلم حتى كتب بالفحم على الجدران مثل المجانين.
وأما (سلطان العلماء) الشيخ (العز بن عبد السلام) فقد أغرى به خصومه الملك (الأشرف) بن الملك العادل الأيوبي أنه (زائغ العقيدة منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة) وأفتوا بأنه كافرٌ حلال الدم. ورسى مصيره بأن حكم السلطان عليه:(بإلاّ يفتي ولا يجتمع بأحد وبأن يلزم بيته).
وضرب ابن حنبل إلى حافة الموت، وسمم الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان. ودفن ابن جرير الطبري سراً ليلا خوفاً من الرعاع مثل الأشقياء واللصوص. ووضع كل مشبوه ولو كان خمس أشبار بنصيحة أبي مسلم الخراساني على خازوق المماليك والسلاطين العثمانية وذبح الحجاج سعيد بن جبير وهو يشخب في دمه ويقول له: لأبدلنك ناراً تتلظى. وفي يوم العيد يقف أحد الجلادين يخاطب الجمهور أنكم تضحون اليوم وأنا سأضحي الجعد بن درهم ثم ينحره كالكبش الأملح.
ومنذ أن رفع معاوية السيف فقال بايعوا هذا وأشار إلى يزيد ومن لم يبايع هذا وأشار إلى السيف مشينا في طريق نهاية أبولوينا وبرونو وسبينوزا وسقراط. ومع الانقلاب الأموي ودعنا حياة الرشد واعتنقنا مبدأ الغي وانضممنا إلى قافلة المستكبرين في الأرض الذين يريدون علوا في الأرض وفسادا. وتشبعنا إلى الثمالة بروح الإمبراطورية. وكذلك نقص عليك من أنباء القرى منها قائم وحصيد.
ووضع العالم الإسلامي من مذابح الجزائر مرورا بحطام الصومال وانتهاء بجبال تور بورا تحصيل حاصل لاغتيال الفكرة وبزوغ مجتمع الوثن. وحيث تغيب شمس العقل يسود ليل الأصنام. واستعراض سريع لوضع العالم الإسلامي يرينا أننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ويطرح الكاتب (علي الوردي) سؤالاً خطيراً: لو عاصرنا النبي (ص) وهو يضرب بالحجارة في الطائف هل كنا معه أم كنا مع الضاربين؟.
ولكن السؤال الكبير هو لماذا هذه المعاندة العجيبة (للكلمة)؟ إن هذا السؤال يفتح لنا الطريق لثلاث حقائق: جدلية الكلمة والتعبير. وجدلية الكلمة والحق. وجدلية الفكرة والتاريخ. لم ينشأ الإنسان على ظهر الأرض إلا مثل كلمة أخيرة من السطر الأخير في الصفحة النهائية لسفر الخليقة المكون من ألف صفحة. فعمر الأرض 4.6 مليار سنة. ولكن الحياة لم تبدأ إلا قبل 3.8 مليار سنة. وبقيت الأرض قفرا بدون حياة لمدة 800 مليون سنة. وبدأت عديدات الخلايا بالظهور قبل 530 مليون سنة ونشأت الحياة من الماء في انفجار بيولوجي أخذ عشر ملايين من السنين فقط. وحسب أحدث الكشوفات الأنثروبولوجية التي كشفها العالم الفرنسي (برونيت) في تشاد فإن تاريخ الإنسان يعود إلى أكثر من سبعة ملايين من السنين. ولم يكن الشكل الإنساني واحداً بل مشى على ظهر الأرض أكثر من عشرة أنواع انقرضت كلها بما فيها إنسان نياندرتال الذي ظهر قبل 150 ألف سنة وانقرض قبل ثلاثين ألف سنة واجتمع به جدنا آدم الهوموسابينس الذي قضى عليه حسب معلومات قناة الديسكفري. وهذا يعني ظهور الإنسان القاتل. وهذا الإنسان القاتل الناطق بدأ رحلته من أفريقيا قبل مائتي ألف سنة فوصل أوربا قبل 35 ألف سنة واجتاز مضيق بهرنج مشيا على الأقدام حتى جبل النار في أقصى أمريكا الجنوبية قبل 12 ألف سنة. وحتى هذا الوقت لم يكن شيئا مذكورا. يأكل الوحوش والوحوش تأكله. كل همه أن يملأ معدته خوف الموت جوعاً. وبقي مئات الآلاف من السنوات يعتمد الصيد وجمع الثمار حتى قلبت المرأة شكل الحياة كما ذكر (ديورانت) في (قصة الحضارة) أنها اكتشفت الزراعة فأدخلته الحضارة وأمن على نفسه أن يموت جوعا ففاض الطعام ونشأت المدينة وقسم العمل ونشأت التخصصات وولدت الدولة ومعها الطغيان السياسي وبنى الذكور كل الحياة على شكل الثكنة وتطور السلاح وجندت المخابرات لحماية الحاكم الذي يلعب بالمسبحة وصرر النقود ومصائر الناس وكان الملوك يتسلون بالحروب مثل الصيد. ولم تنشأ الحضارات إلا قبل ستة آلاف سنة وزادت عن 32 حضارة انبثقت من 600 مجتمع بدائي كما كشفها المؤرخ (توينبيToynbee). واخترع الإنسان الكتابة قبل خمسة آلاف سنة. وطبع (جوتنبرغ) الكتاب المقدس في أول مطبعة قبل خمسة قرون. وتم تسخير طاقة البخار قبل مائتي سنة. واستخدمت الكهرباء قبل 120 سنة. ودشن ماكس بلانك عام 1900 م قواعد ميكانيكا الكم عن طريق ظاهرة إشعاع الجسم الأسود. ولم نعرف تطبيقات الإلكترونيات إلا منذ ثلاثين سنة كما أشار إلى ذلك (ستيفن هوكنج) في (قصة قصيرة للزمن) ودخلنا عصر الفضائيات قبل خمس سنين. ويتسارع العلم بأشد من تباعد المجرات. وتم تفتيت الذرة وعرف البناء دون الذري حتى الكواركز واللبتونات وسحق الزمن حتى الفيمتو ثانية. ودخل البشر عصر السلم من بوابة الردع النووية على الرغم من طبول بوش الذي يعيش عام 1776 م بعقلية الحروب القديمة. وكما يقول (غورباتشوف) في كتابه (البروستريكا) quot;أن العصر النووي لا يسمح بأن يعيش الإنسان عقل الغابة والهراوةquot;.إن الإنسان عاش مئات آلاف السنين في حركة أقرب لغريزة الحشرات بدون نمو مثل طنين النحلة ودبيب النمل. لأنه كان يموت وتمحى الذاكرة مع الموت. ولكن اختراع الكتابة قبل خمسة آلاف سنة منحت الذاكرة خلودا غير متوقع فلم تعد المعلومات تمحى مع موت الجيل بل حفظتها الكتابة. وبذلك نشأت ذاكرة هائلة جماعية لا تكف عن النمو. وإذا كانت مكتبة نبوخذ نصر تضم 25 ألف لوح من الطين المنقوش بالكتابة المسمارية فإن مكتبة لينين تضم أكثر من ستة ملايين عنوان. وكل الذاكرة الإنسانية يحاول الألمان حفظها حالياً في ميكرو فيلم وشيبس في مستودعات جبلية ليوم الفصل العظيم على فرض حدوث كارثة نووية أو كونية وانقرض كامل الجنس البشر وجاء من يبحث عنا. كما أن المركبة الفضائية بيونير عشرة تمشي خارج النظام الشمسي حاليا للتعريف بنا إلى كائنات خارج مجموعتنا الشمسية.وإذا كان كهنة سومر وسحرة فرعون كتبوا على الطين والبردي واحتفظوا بالمعلومات سراً عن جماهير مغيبة الوعي تعتقد بألوهية فرعون فإن الإنبياء جاؤوا بالكلمة من أجل تحرير الإنسان. والصحافة اليوم تنقل الأفكار منقوشة على الهواء. ولم يعد مكان لسرية المعلومات بعد انفجار الانترنيت. ولا يملك الإنسان نفسه من الضحك والشعور بمتعة التحرر وهو يرى رجال المخابرات اليوم وهو يتصرفون مثل ساحرات العصور الوسطى الذين يستخدمون المكانس لاصطياد الأطباق الطائرة بسرعة الضوء فوق رؤوسهم تئز أزا.
كهيعص ..الم .. إنها حروف مداخل السور تقول أن الوعي مربوط بالكلمة والقلم وما يسطرون. ومن هذه الحروف أضيفت إلى ذاكرة كل فرد ذاكرة كل البشرية فواحدنا حجمه فردي ودماغه بقدر الجبال الشاهقات وقبل أن يدخل الطفل المدرسة يختزن كل تذاكر أسلافه ويتعلم في سنوات ما جمعه حكماء القرون في سبعة ملايين من السنين. وكسر احتكار الكلمة هو الذي نقل البشر من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات ونشأت ديموقراطية عالمية بدون برلمان منتخب. ولم يعد يمسك البشر السلاح والمال بل (المعلومة). وإذا سرت المعلومة تحرر عقل الإنسان. وكان القرآن محقاً في وصف من يكتم الحقيقة أن يكون ملعوناً من الله والملائكة والتاريخ والناس أجمعين. لأنه يعيق التقدم فلم يتقدم الجنس البشري إلا بالعلم ومن جهل خاف ومن خاف تم استعباده كما يقول (الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). وبذلك نفهم حقائق القرآن اجتماعياً وليس ثيولوجياً. سياسياً وليس غيبياً. وتنتقل الشهادة من السماء إلى الأرض. ومن عالم الميتافيزيقيا إلى الواقع. وتصبح مسألة (التوحيد) ليست (علم كلام) بل مٍسألة حيوية في السياسة والاجتماع. وهذا المرض هو السبب في موت المسجد وقراءة القرآن على الأموات وليس بعثا للحياة وظهور نموذج مشوه هو (إنسان ما بعد الموحدين) وفق مصطلحات (مالك بن نبي) يمتاز بالكلال وتقبل الظلم وقراءة النصوص بعيون الموتى. إذا لم تحرص الصحافة على الصدق والموضوعية والسبق في نشر المعلومة ووظفت الكلمة في خدمة الطاغية فسوف تموت غير مأسوف عليها. صحيح أنها كما يقول (النيهوم) قد تشبه الصحافة الغربية في كل شيء مثل شبه البيضة للبيضة. ولكنها تختلف quot;بقدر ما تختلف بيضة مسلوقة عن ديك يصيح فوق السياجquot; ففيها كل ما تحويه صحف الغرب من التحليل الصحفي والافتتاحية وصفحة النعوات وأنباء البورصة عن اليورو والدولار والكلمات المتقاطعة وتنبؤات الفلكيين والمقابلات الصحفية. ولكنها إذا لم تستخدم وظيفتها بنشر الفساد المالي وتعرية ديناصورات القوة والمال فلسوف تتحول إلى صحافة ميتة. ومهما حاولت الصحافة أن تضع الحواجز أمام انتشار الكلمة فهناك الأقنية الموازية تتسرب منها من قبضة الرقيب الإعلامي ورجال المخابرات ومحدودية اللغة العربية والبوابات الأمنية وإعلان الوصاية على العقل العربي. والكلمة عندها قدرة تشكيل الأجنحة والطيران من شرنقة المحاصرة كما يخرج الجنين من ظلمات ثلاث. ودخول مناخ يرحب بالفكر وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. والنقد والكلمة الطيبة حية مثل الشجرة الطيبة تؤتي أكلها حين بإذن ربها. ومهما حاول رجال السياسة القساة أن يرسموا خرائط ويضعوا الحدود كما جاء في قصة (الرجل الإنكليزي English Patient) فقد انتهى عصر الجغرافيا وكسرت الحدود فلا حدود وأصبح الناس بنعمة الانترنيت إخوانا عكس اتجاه (نهاية التاريخ) التي تنبأ بها (فرانسيس فوكوياما) المخمور بعنب أمريكي فالتاريخ دفن روما والوكوليسوس ليس منه سوى الأطلال آية للمتوسمين. وسيدفن روما الجديدة عندما يبلغ الفساد عتبة الانهيار وكما جاء في الإنجيل أنquot; الكبرياء يسبق السقوطquot; وسأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وغن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا. إن الأنبياء جميعا بدءً من سقراط ومرورا بالرسالات العظمى وانتهاء ببوذا نادوا بكلمة واحدة هي السلام وتعليم الإنسان لتحقيق السعادة والعدل الاجتماعي من خلال تعليم الإنسان أن الشيطان ليس له سلطان على العباد إلا من اتبعه من الغاوين. ونادى الأنبياء بالسلام ليس بالمعنى الأخلاقي بل البراجماتي quot;ذلكم خير لكمquot; ولكن ألفي سنة من الوعظ الأخلاقي لم توقف المسيحيين عن الاقتتال كما لم تنفع المسلمين خلال ألف وخمسمائة عام أن يكفوا عن النزاع وسفك الدماء التي بدأت من صفين الأولى عام 34 هـ وانتهاء بصفين الثالثة عام 1990م. والذي أوصل العالم إلى شاطيء السلام لم يكن الوعظ بل (العلم) ويبدو العالم اليوم مثل كائن عملاق يجرجر أقدامه من وحل دموي فرأسه الشمالي ودع الحروب فلا تتقاتل دول الشمال بعد أن جربت الحروب الدينية والقومية والعالمية وتمتلك كل تقنية القتال وأقدام مازالت في وحل النزاعات في قسمه السفلي. وتندلع الحروب حيث لا يوجد تقنية أو علم وتخاض الحروب بين المتخلفين مثل الحبشة وإريتريا أو لتأديب المتخلفين في جبال تورا بورا أو لاستغلال المغفلين. وتتحول أمريكا إلى فرعون كبير يوحي للعالم أنه مازال مكان للقوة بسحرة يلقون عصيهم وحبالهم ويقولوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. والعالم اليوم يحتاج إلى موسى يلقي عصا بسيطة وكلمة صادقة فيقع الحق وببطل ما كانوا يصنعون ويلقى سحرة العلم الجديد ساجدين فيقولوا آمنا برب العالمين. رب موسى ومحمد وعيسى وبوذا وسقراط وروزا باركس وبيرثا فون سوتنر وماندلا وهارون. مغزى هذه القصص أن المجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. وأن الجديد يعارض دوماً. وأن النافع يثبت. وأن التاريخ تقدمي.