نعلم أن الرد العسكري الإسرائيلي على عملية أسر quot;حزب اللهquot; جنديين إسرائيليين، يتجاوز الأعراف الإنسانية ويضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية التي تجرم هذا التمادي في العدوان على المدنيين اللبنانيين وعلى البنى التحتية للبنان. لكن في الوقت نفسه نعلم أيضا أن القوى السياسية الدينية، معها جموعها التي عادة ما تسير خلفها في أوقات الصراع مع إسرائيل وكأنها مكممة الأفواه مغمضة الأعين مجردة من التفكير إلا من فكرها العنصري وثقافتها الدينية المؤدلجة، تلك القوى المنددة باستمرار بالدولة العبرية (وإن كانت على حق في بعض مواقفها) والمدافعة على طول الخط عن مشروع حسن نصر الله الديني الأممي، لا تجد غضاضة، حينما تنشب أزمات في المنطقة كالأزمة اللبنانية الراهنة، في أن تطبّل للمشروع الديني دون أي مراعاة للمصالح الوطنية للبلد الذي تعيش فيه أو أي حساب للأهداف القومية، وأن تجد في الصراع مرتعا خصبا للدفع بشعاراتها الشمولية المؤدلجة، حيث لا ترى في الأزمة سوى أنه صراع بين حقها الديني المطلق والملزم التنفيذ ومن الواجب الشرعي الدفاع عنه ولو جاء على حساب مصلحة الوطن والمجتمع وعلى حساب إزهاق أرواح الآلاف من البشر الأبرياء، وبين الباطل الديني المطلق، ضاربة عرض الحائط بأي وجهة نظر قد تتجرأ لنقد ما تسبب به جيش تنظيم نصر الله من إشعال شرارة الأزمة.

فلا يمكن للعقلية المؤدلجة المطلقة والشمولية، القريبة جدا إلى الشوفينية و المتبنية للوصائية، إلا أن تقسّم أي صراع يكون أحد أطرافه دولة إسرائيل، إلى صراع بين نواب الله المؤمنين، ونواب الشيطان الخونة والعملاء للعدو والاستعمار والقريبين إلى الكفر والشرك. فتلك العقلية التي يسهل عليها تقسيم الصراع إلى صراع بين جبهة الحق مقابل جبهة الباطل، لا تتوانى عن استخدام عصا النص الديني لمنع أي فسحة أمل ناقدة تسعى لتوجيه اللوم للطرف الديني المسلم في عالم المواجهة الدينية الإسلامية - اليهودية المتقدة، الذي خلقته وأشعلته وصبت الزيت عليه بمساعدة أشقائها المؤدلجين من اليهود.

فلا يمكن لهذا النوع من النسمات أن يتعايش في عالم الأيديولوجيا وبالذات الدينية، ولا يمكن لجذور الحرية أن تنبت في أرض التديّن السياسي. لذا فرضت القوى الدينية السياسية وأنصار الإسلام السياسي، في الكويت وفي غيرها من مجتمعات quot;الشعار الدينيquot; وquot;الأحلام الغيبيةquot;، مخرجا كلاسيكيا للأزمة الراهنة، وهو أن تكون الجماهير إمّا مع quot;الحقquot; الإسلامي ممثلا بجبهة حزب الله وثقافة حسن نصر الله ومن مشى مشيتهم، وإما أن يكونوا مع quot;الباطلquot; حيث لا مجال هنا لمنطقة رمادية. فإما أن يكون الإنسان عميلا وخائنا وصهيونيا، وإما أن يكون مسلما مؤمنا بالله وبمشروع الإسلام السياسي وبحتمية قيام دولة الإسلام والقضاء على اليهود ودولتهم المجرمة!!.

إن الأمور في ظل هذه الثقافة الشمولية الإقصائية لا يمكن حسمها استنادا إلى التفكير الحر والوعي المسؤول والإدراك غير المؤدلج وحساب الصواب والخطأ ومبدأ المصلحة، بل استنادا إلى quot;الحتمياتquot; التي تضع سدا منيعا أمام ممارسة العقل لمهامه النقدية ولتحليله الموضوعي للقضايا. لذلك أي نقد لسياسات وممارسات حزب الله وزعيمه نصر الله ضد إسرائيل يعتبر نقدا للحق الديني وتجاوزا على الإسلام ومعصية لله وخيانة للأمة وجماهيرها وقضاياها!!. فخطوة التنظيم في أسر الجنديين الإسرائيليين وما تلا ذلك من تحدي أمين عام التنظيم لأي تصعيد إسرائيلي ثم رد الفعل العسكري الإسرائيلي العنيف على ذلك والذي مازال مستمرا، ألا تستحق نقدا موضوعيا وشاملا بل ونقدا للحزب وفكره وشخص زعيمه؟ أيمكن مواجهة مثل هذا النوع من الأزمات الكبيرة والعنيفة بنقد سلوك الجانب الإسرائيلي فحسب وعدم مساءلة سلوك وسياسات حزب الله، لاستناد تلك السياسات وذلك السلوك إلى منهجية دينية فوق بشرية غير قابلة للمساءلة بسبب أنها تعبّر عن الجانب الديني الحق وتمثل الموقف الإلهي مقابل الموقف الشيطاني؟!! بالله عليكم هل يختلف هذا المنطق مع منطق الزرقاوي وبن لادن وغيرهما من رموز الأدلجة الدينية العنيفة؟ وماذا لو وصم أحد المحللين ما قام به حزب الله من أسر الجنديين بأن ذلك ليس سوى تنفيذ لسياسات إقليمية لخدمة المسألة النووية الإيرانية والتقليل من الضغوط على طهران، واحتساب الوضع المتفجر في المنطقة كأجندة تتداخل مع الملف النووي مستندة إلى أن طهران لابد أن تكون طرفا رئيسيا في المعادلة؟ وماذا لو تم ربط عملية الحزب بوصفها أجندة تهدف في النهاية إلى تخفيف الضغوط الدولية وبالذات الأميركية التي تتعرض لها دمشق؟ وماذا.. وماذا.. وماذا..؟ بل ماذا لو اعتبرنا أن جل عملية حزب الله تهدف لتحقيق مكاسب لا تتعلق من قريب بلبنان، ألا يحدث ذلك ردة فعل غاضبة من أنصار الحزب في لبنان وفي الدول العربية ومن قبل أولئك الذين يتنافرون سياسيا مع الحزب لكنهم يستغلون شعاراته الدينية وأهدافه الأيديولوجية وخطواته العسكرية غير المسؤولة لتحقيق مكاسب محلية، ألا يشبّهون من وقف ضد الحزب كمن عادى الدين وخدم أعداء الله وشوه صورة القتلى quot;الشهداءquot;؟.. لذا كم هو جميل أن يكون الإنسان مع لبنان في محنته ومعاناته، وضد سياسات وممارسات حزب الله التي وسعت من جراحات لبنان واللبنانيين. لكن كم هو قبيح أن يتم ربط أي هجوم على سياسات الحزب وكأنه هجوم على لبنان واللبنانيين وعلى الشعوب العربية والمسلمة وعلى الدين الإسلامي وكأنه تأييد لإسرائيل!!. فهم كعادتهم خلطوا الحابل السياسي بالنابل الديني، لأن مشروعهم الديني الشمولي الوصائي يقوم على هذا الخلط ويستند إليه، والنتيجة هي المشاركة في تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي وفي سقوط المزيد من الضحايا المدنيين.

كاتب كويتي
[email protected]