لم يكن ممدوح نوفل، الذي غاب قبل أيام أثر مرض عضال لم يمهله طويلاً، مجرّد قائد عسكري فلسطيني شريف بكل ما في معنى الكلمة خاض كلّ معارك الثورة الفلسطينية التي أوصلت ألى استعادة بعض الأرض...
كان ممدوح أيضاً قائداً عسكرياً عرف كيف ينتقل ألى السياسة وأن يتحوّل لاعباً في هذا الميدان الصعب الذي عجز معظم القياديين الفلسطينيين عن ولوجه. قلّة فقط من القياديين عرفت معنى العمل السياسي وكيف يكون العمل السياسي وكيف يمكن توظيف الإمكانات الفلسطينية وجعلها في خدمة القضية بدل أنتقال الفلسطينيين من كارثة ألى أخرى ومن مأساة ألى مأساة كما يحصل اليوم.
أمتلك ممدوح نوفل الذي ولد في قلقيلية في العام 1944 والذي هزمه المرض في عمّان قبل أيام ما يكفي من الشجاعة والنضج السياسي كي يتطور بأستمرار بعيداً عن أي نوع من الأنتهازية في وسط لا يعرف، معظم الذين يتحرّكون فيه، غير الأنتهازية. بدأ حياته النضالية باكراً في حركة القوميين العرب التي خرجت quot;الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينquot; من رحمها. وعندما حصل انشقاق داخل quot;الجبهة الشعبيةquot; ولدت منه quot;الجبهة الديموقراطيةquot;، ألتحق ممدوح عن طيبة قلب بالمنشقين الذين كان على رأسهم السيّد نايف حواتمه الأمين العام الأبدي لquot;الديموقراطيةquot;.
صعد نجم ممدوح نوفل داخل quot;الجبهة الديموقراطيةquot; وصار القائد العسكري لقوات الجبهة، التي كنت تؤمن بالماركسية- اللينينية، وعضواً في مكتبها السياسي الذي يعتبر الهيئة القيادية الأعلى في هذا التنظيم الفلسطيني. وقد شاءت quot;الديموقراطيةquot; منذ تأسيسها أقامة علاقات وثيقة مع الأتحاد السوفياتي وذلك في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لعلّ ذلك يؤمّن لها دوراً ما، علماً بأن عين موسكو كانت دائماً على quot;فتحquot; كونها تعلم أنها التنظيم الذي يشكّل العمود الفقري للثورة الفلسطينية.
خاض ممدوح نوفل مغامرات الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان ولعب دوراً رئيسياً في التخطيط لعمليات فلسطينية كبيرة بينها واحدة نُفّذت أنطلاقاً من جنوب لبنان في 15مايو- أيار 1974 وقتل فيها عشرات الطلاّب ألأسرائيليين في مستعمرة معلوت (ترشيحا) القريبة من الحدود اللبنانية. قُتل الطلاب بعد رفض السلطات الأسرائيلية التفاوض وأطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين. ومنذ ذلك التاريخ، صار أسم ممدوح نوفل على لائحة الأغتيالات الأسرائيلية. لكنّ ذلك لم يمنعه من التطور في ضوء التجربة التي مر فيها الفلسطينيون في لبنان. وبدأ فكر القائد العسكري لquot;الجبهة الديموقراطيةquot; يسير في أتجاه مختلف مع بدء أكتشافه لأهمية ياسر عرفات والقرار الفلسطيني المستقل الذي كان الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني يتمسّك به إلى أبعد حدود. ولم تمض سنوات قليلة على الخروج الفلسطيني المسلّح من لبنان صيف العام 1982 حتى ألتحق ممدوح نوفل بياسر عرفات في تونس وصار من المحسوبين عليه. صار عرفاتياً خالصاً ومخلصاً من دون أن ينضم إلى quot;فتحquot; ولكن بعدما اكتشف أن quot;فتحquot; هي الثورة الفلسطينية وأنّ التنظيمات الأخرى لا علاقة لها بالقرار الفلسطيني المستقل بمقدار ما أنّها مرتبطة بهذا النظام العربي أو ذاك على حدّ تعبيره.
تغيّر ممدوح نوفل كلّياً أبتداء من منتصف الثمانينات ولم تعد لديه أي أوهام في شأن العمل العسكري والعمليات الخارجية. ومنذ العام 1988 صار من المطالبين بأستثمار نتائج أنتفاضة أطفال الحجارة من أجل تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة. وفي هذا السياق، لعب دوراً في الأعداد لأتفاق أوسلو. وكان بين مجموعة صغيرة على علم بالمفاوضات السرّية الدائرة في ضواحي العاصمة النروجية. حافظ على السرّ طويلاً وكانت الأشارة الوحيدة التي سرّبها في أحدى المرّات قوله لكاتب هذه السطور أن عليك ألاّ تتفاجأ أذا سمعت يوماً عبارة quot;غزة وأريحا أوّلاًquot;. حصل ذلك في يونيو- حزيران من العام 1993، أي قبل شهرين من توقيع أتفاق أوسلو الذي يتحدّث عن quot;غزّة وأريحا أوّلاًquot;، وقد وردت هذه العبارة في أحد الأخبارالتي نشرت في صحيفةquot;الحياةquot; وقتذاك والتي كنت أصنع صفحتها الأولى.
كانت أهمّية ممدوح نوفل تكمن في تلك القدرة على التطوّر والأنفتاح من دون عقد على العالم المتحضّر. وسمحت له هذه القدرة بالأنتقال من وضع القائد العسكري الذي حُمّل مسؤولية عملية معلوت (ترشيحا)، ألى عضو في فريق متابعة مفاوضات أوسلو، ألى عائد ألى أرض فلسطين أخيراً بفضل أوسلو،ثمّ ألى سياسي ناضج يستوعب أنّ لا حلّ في فلسطين ألاّ عبر المفاوضات. كان ممدوح نوفل قبل أن يشتدّ عليه المرض في الأشهر الأخيرة ألى جانب السيّد محمود عبّاس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. كان يدرك نقاط القوة ونقاط الضعف في شخصية quot;أبومازنquot; مثلما كان يعرف شخصية quot;ابوعمّارquot; بشكل عميق جعله يبدي بأستمرار مخاوفه من النتائج التي ستترتّب على غياب الرجل الذي أراد أن يختصر كلّ المؤسسات الفلسطينية في شخصه.
في السنوات الأخيرة، خصوصاً تلك التي تلت توقيع أوسلو، عمل ممدوح مع آخرين على تطوير مؤسسات السلطة الوطنية، بما في ذلك الشرطة الفلسطينية، كذلك أنصرف إلى الكتابة ووضع كتباً عدّة. سألته مرة ما الذي مكّنه من الأنتقال من ضفة ألى أخرى، أي من عملية معلوت(ترشيحا) ألى المشاركة غير المباشرة في أوسلو، أجاب أن ما سهّل عليه ذلك أستيعابه للأخطاء التي أرتكبتها الثورة في الأردن ولبنان. كانت أخطاء في حقّ الأردنيين واللبنانيين لم تؤد ألى التقدم ولو خطوة في أتجاه فلسطين. قال لي: هناك من يريد أن يتعلّم من هذه الأخطاء، وهناك من يرفض ذلك. سألته عن حدث معيّن حصل في لبنان يتمثّل في سرقة البنك البريطاني في بيروت أوائل العام 1976 . أجابني معطياً تفاصيل كثيرة عن الجهة التي تقف وراء العملية وعن الأستعانة بخبراء من دول أوروبية شرقية وقتذاك لتقدير التحف التي لا تقدّر بثمن والتي كانت في خزائن البنك. طلبت منه أن يروي ذلك في حديث صحافي. رفض طلبي بتهذيب وقال أنه يصرّ على دفن هذا السرّ الكبير معه. رحل ممدوح وبقي السر معه. أنه من الرجال القلائل الذين كانوا يعرفون معنى الرجولة والأخلاق والصداقة والوفاء والشرف ومعنى أن يكون للفلسطيني مكان يدفن فيه في أرض فلسطين المقدّسة. أنه يعرف خصوصاً معنى التوقف عن بيع الأوهام للفلسطينيين والخطر الناجم عن أطلاق الشعارات المستحيلة التحقيق... هذه الشعارات التي تهدّد بالقضاء على نصف الحلم الذي تحقق. أنه الحلم لن يكتمل سوى بأقامة الدولة المستقلة. وقد كان القضاء على نصف الحلم الهمّ الأول لممدوح نوفل في السنوات الأخيرة. كان يخشى من أن تؤدي موجة التطرف في المنطقة ألى القضاء على أي أنجاز تحقق منذ أوسلو ومنذ ما قبل أوسلو.
التعليقات