تبدو منطقة (الشرق الأوسط)، أكثر مناطق العالم توتراً واضطراباً، تعيش تحت وطأة عنف مختلف الايديولوجيات والأصوليات، القومية والدينية واليسارية والعسكرية. على خلفية هذه العقائد والأيديولوجيات المقدسة والغير مقدسة، تندلع من حين لآخر، بين دول وشعب المنطقة وأحياناً بين مجموعات داخل الدولة الواحدة، حروب وصراعات تجلب المزيد من المآسي والمحن لشعوبها، وهذا يجعل من (الشرق الأوسط) مجرد(مسلخ) لذبح البشر بالجملة والمفرق. تارة عبر حروب وصراعات على الجغرافيا ومن أجلها وتارة على التاريخ ومن أجله، تارة بين من يريد الهجرة باتجاه (الماضي) وصولاً الى (الدولة الدينية) وبين من يريد الهجرة باتجاه (المستقبل) وصولاً الى (الدولة المدنية- العلمانية)، تارة بين سلطة الاستبداد والمعارضة وأخرى بين الإرهاب والحرية. ولا يبدو في الأفق نهاية قريبة لهذه القلاقل، طالما كل يدعي بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة ويدافع عن حقوق مقدسة ثبتتها له الآلهة في كتبها وسجلاتها الآتية من خارج التاريخ ومن عوالم أخرى سابقة للزمن. وقد علمنا التاريخ بأن أخطر الحروب هي تلك التي تندرج في اطار (الحروب المقدسة) والتي تقام باسم الآلهة، كالحرب الراهنة بين حزب الله واسرائيل، حيث الخسارة أو الهزيمة فيها مرفوضة وغير واردة، لأن الآلهة لا تهزم.
في هذه اللحظات التاريخية العصيبة التي تعصف بلبنان وتهدد بإشعال المنطقة، نتألم فيها لضحايا مجازر(قانا) و(غزة). لكن من غير أن ندخل في تفاصيل المشهد اللبناني ونحدد مسؤوليات مآسيه والمحن التي تعصف به جراء العدوان الإسرائيلي عليه منذ أكثر من ثلاثة أسابيع والتي استنفر لها العالم بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، نذكر هذا العالم، خاصة العرب والمسلمين، بأن هناك شعوب ومجموعات بشرية أخرى، ارتكبت وترتكب بحقها مذابح وجرائم إنسانية، في العراق ومصر وتركيا وفي دول ومناطق أخرى، تارة على يد الدولة وتارة على يد الإرهاب، ويكاد لا توجد دولة في المنطقة، عربية وإسلامية، بريئة من دم شعبها ومواطنيها. كما نلفت أنظار العالم العربي والإسلامي المستمتع بـ(مأساة العراق)، حيث تحصد (العمليات الإرهابية) التي تنفذها عناصر عراقية وغير عراقية يومياً العشرات من سكانه الآمنين، من كل القوميات والأديان، بالإضافة الى ضحايا الاحتلال الأمريكي البريطاني له، ومن غير أن يبدو في الأفق القريب نهاية لهذا (العنف الطائفي) الأعمى الذي أدخل العراق في حرب أهلية ملعونة قوضت وجوده وتهدد وحدته، كما أنها تكاد تفرغ العراق من المسيحيين والآشوريين(كلدان/سريان)، أقدم سكان بلاد ما بين النهرين، وكأن الذي حل بهم وأصابهم من مذابح وويلات على امتداد القرون الماضية ليس كافياً. أن مذابح (قانا)و(غزة)وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل بحق العرب، على فظاعتها وبشاعتها، يجب أن لا تنسي العالم ما يجري للعراقيين على يد (الإرهاب الوطني) والمستورد، وما حل بالمسيحيين (أرمن وآشوريين وروم ويونان) من رعايا الدولة العثمانية/التركية التي نفذت بحقهم عمليات (إبادة جماعية) وترحيل قسري لهم من مناطقهم في ربيع وصيف عام 1915. أن ما جرى للآشوريين العراقيين في (مذبحة سميل) وفي قرى سهل نينوى آب 1933، التي يحي الآشوريون في هذه الأيام ذكراها، لم تكن مجرد جرائم إنسانية فحسب، وإنما بالقدر ذاته كانت جرائم سياسية بحق الوطن العراقي، خاصة إذا علمنا بأن الآشوريين انطلقوا منذ البداية كحركة وطنية عراقية ناضلت من أجل إحقاق الحقوق القومية والدينية للآشوريين في إطار (الدولة العراقية) الواحدة، وقد أكدوا على تمسكهم بعراق ديمقراطي موحد من خلال المطالب التي أعلنوها في 16 حزيران 1932 (اعتراف دولة العراق بالآشوريين شعباً عراقياً أصيلاً, وليسوا بأقلية طائفية وافدة، وجوب إعادة المناطق الآشورية في تركيا إلى العراق، أن يمثل الآشوريون في الحكومة والبرلمان العراقي). لكن بدلاً من أن تستجيب حكومة الاستقلال (حكومة الكيلاني) للمطالب الآشورية المشروعة وتخفف عنهم معاناتهم، صورتهم على إنهم (أقلية وافدة وانفصالية) تعمل لصالح (الإنكليز) لتبرر الحملة العسكرية عليهم بهدف صرف (الرأي العام) العراقي عن المشاكل الداخلية التي كانت تواجهها، وهي بذلك افتتحت عهد الاستقلال بإقامة (شعائر الموت) وعمليات القتل والتهجير الجماعي للآشوريين العراقيين، وجبل كيان الدولة العراقية الفتية بالدم الآشوري وزرع بذور الحقد والكراهية والتأسيس للنهج الطائفي ولكل أشكال الاستبداد والفساد في المجتمع العراقي. وهي (مذبحة سميل) تعد أولى إنجازات (الحكم الوطني) على صعيد (المقابر الجماعية) المزروعة اليوم بكثرة في أرض العراق. وصف شهود عيان ما جرى في سميل الآشورية: بأنه كان من أكثر الجرائم الإنسانية فظاعة وبشاعة في تاريخ المنطقة. وقال عنها أحد الضباط البريطانيين مندهشا: ((لقد رأيت و سمعت الكثير عن الأعمال المريعة والبشعة خلال الحرب، إلا أن ما شاهدته في (سميل) يفوق تصور البشر)). بلا ريب، تركت مذبحة سميل مضاعفات اجتماعية وآثار سياسية خطيرة ليس على مستقبل الآشوريين فحسب وإنما على مستقبل العراق ككل، حيث شكل ذلك الاصطدام المفتعل مع الآشوريين، نقطة البداية للانحراف في مسيرة الحياة السياسية للعراق وانتهاك الدستور، وهيأ الأجواء داخل العراق للحكم الدكتاتوري العسكري المتشبع بالفكر القومي الغوغائي والنزعة الشوفينية للقومية والتعصب الأعمى للدين، الذي استمر في خداع الجماهير وتضليل المواطنين بالشعارات الوطنية والقومية الزائفةالتي أوصلت العراق الى ما هو عليه اليوم من نار ودمار. في ذات السياق يقول الأستاذ (عبد المجيد القيسي) في كتابه (تاريخ القضية الآشورية في العراق):((وما الرقص في برك الدم وسحل الجثث يوم 14 / تموز /1958 و 8 شباط/1963 وأحداث عام 1959 في الموصل وكركوك، وما فرحة الانتصار الوطني والفخار القومي على الجثث المتساقطة في (حلبجة) بفعل الكيماوي، ما هذا كله إلا أثرا من أثار (التنظير العقائدي) الذي وضع (رشيد عالي الكيلاني) بذرته الأولى عام 1933 - من خلال افتعال الاصطدام مع الآشوريين وسحق انتفاضتهم)).

سوري آشوري
shosin@scs-net.org