كتب الكثيرون منذ بداية الحرب اللبنانية الإسرائيلية عن السيد حسن نصرالله، مهللين له ومعظمين شأنه ورافعين مقامه تارة إلى مستوى صدام حسين ـ يوم كان الأسد المغوار ـ وبالزعيم المفــَّدَى وquot;قائد الثورةquot; معمر القذافى فى عز مجده، وقبل أن يصير quot;الأخ العقيدquot;.. بل ومضى بعضهم إلى مقارنته بصلاح الدين الأيوبى محرر القدس من جيوش الصليبيين، أو زعيم الأمة العربية جمال عبد الناصر تارة أخرى، ثم ذهب البعض إلى أبعد من ذلك مدعين أن السيد نصرالله ـ جل شأنه ـ أعظم من كل هؤلاء مجتميعن، حيث أنه أول زعيم عربى يستطيع، وبكل فخر، أن يكيل بالضربات الموجعة إلى عمق الأراضى الإسرائيلية، بعد أن أشبعونا تهديدًا ووعيدًا بأنهم سوف يفعلونها يومًا، وإن لم يجئ أبدًا ذلك اليوم ..

نعم كتبوا كل هذا، وأنا أتفهم دوافعهم.. الموضوع أن تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى طويل وممتد لعشرات السنين، وعبر سنوات إمتداده إمتلأنا حسرة وانكسار لتوالى الهزائم والنكسات والكبوات، عند كل منعطف نمر به ويجعلنا نواجه عدونا اللدود وجهـًا لوجه.. نعم كتبوا وكأنهم يحملون السيد نصرالله فوق الأكتاف ويهللون، لأنه عند ذلك المنعطف الأخير، يبدو أنه قد وصل الزعيم المنتظر!!.. كتبوا لأن الصواريخ عبرت ـ أخيرًا ـ الحدود الإسرائيلية وأصابت الإسرائيليين بالهلع بعد أن قتلت وأصابت العشرات.. كتبوا منفسين عن غضب وذل ومهاتة إحتبست فى صدورهم لما يقرب من الستين عام.. أخيرًا جاء الزعيم الذى أطلق ألف وخمسمائة صاروخ ـ وليست خمسة صواريخ كالتى أطلقها الزعيم العربى السابق ـ أحدثت إصابات حقيقية أدت بالبعض منهم، من باب المبالغة العربية المعهودة، أن يزعم أن نصف الإسرائيليين يعيشون فى المخابئ.. ولعلها كانت فورة النشوى وليست المبالغة..

وأطل علينا، على شاشة التليفزيون، وجه الزعيم البشوش المبتسم، الذى وصفه أحدهم بالبدر المنــَّور، يقول واثقــًا بأنه ماض إلى نهاية الطريق، وأنه لم يعد يحارب بإسم اللبنانيين فحسب، وإنما يخوض حربًا نيابة عن كل العرب والمسلمين.. أعلن السيد حسن نصرالله عندها أنه إنتصر للجميع.. حارب بإسم لبنان بدون أن يعرف اللبنانيون عن حربه شيء، ثم إنتصر لهم وللعرب جميعًا، بل وللمسلمين شتى.. والحرب ماتزال دائرة، واللبنانيون يتساقطون رجالا ً ونساءً وأطفال، عسكريون، ومدنيون، بالمئات، واستحال لبنان الجميل إلى حرائق وأنقاض، وعبائة حزن ودمار تلتف حوله وتخنق بقية أهله.. ولكن السيد حسن نصرالله أعلن الإنتصار.. إنتصار مدو لكل لبنان، ولكل العرب، ولكل المسلمين..

وتذكرت يوم لقاء quot;دان راذرquot; المفاجأة التى فجرتها السى بى إس بالرئيس ـ حينذاك ـ صدام حسين بقصره ببغداد، أيامًا قبيل الغزو الأمريكى للعراق، حين سأله ألا تخشى من تهديدات الرئيس بوش لك بالحرب، فأجابه الرئيس صدام قائلا ً ولمَ أخاف بوش وقد إنتصرت من قبل على أبوه فى quot;أم المعاركquot;.. وهنا كتم راذر إبتسامته بصعوبة، ثم رفع عينيه نحو الرئيس متسائلا ً عما إن كان قد فهم حقيقة إجابته quot;هل قصد فخامتكم أن جيش العراق إنتصر على جيوش الحلفاء بعد غزوكم للكويت؟ لقد إعتقد العالم كله بهزيمة جيشكم وانسحابه من أرض الكويت متقهقرًاquot; فأجابه الرئيس بإبتسامة مصحوبة بهزة رأس واثقة quot; طبعًا إنتصرنا يا عزيزى.. ألا ترانى جالسًا أمامك؟.. فقد إنتصرنا إذنquot;.. لقد إختصر الزعيم القديم ، ثم الزعيم الجديد من بعده، مفهوم النصر أوالهزيمة، فيما لوكان الزعيم عاش أو مات عند إنتهاء الحرب، وتبًا للشعوب التى تحترق تحتهما.. وكما قال لويس الخامس عشر فى موقف مماثلquot; أنا فرنسا.. وفرنسا أنا..quot;

ومادمنا نتكلم عن الزعامة وعن الزعماء، فلابد من أن نؤكد هنا عن أن لابد للزعيم السياسى، الباق فى ذاكرة التاريخ، من أن يكون ذو فكر حكيم بعيد المدى ونظرة مستقبلية يرى من خلالها تأثير مواقفه وقراراته على شعب بلاده بالأساس، ثم على الشعوب والدول المجاورة، والإنسانية جمعاء إن استطاع.. ولابد للزعيم من أن يغتنم الفرصة، التى قد تصادفه ولو لمرة واحدة، ليضع قدمه فى مرتبة الزعماء الخالدين.. ومن هذا المنظار فى تقييم الزعماء والقادة، لابد وأن يسقط ولا شك الرئيس الأمريكى الحالى جورج دبليو بوش.. لقد أثبت على مدار الستة أعوام التى قضاها فى البيت الأبيض وحتى الآن، إفتقاره إلى تلك الرؤية التى يستطيع من خلالها أن أن ينـَظـِّر ردة فعل قراراته وسياساته، فنراه فى أحيان كثيرة مضطرًا للإعتذار عن أفعال أو خطوات قد خطاها دون حسابات دقيقة أو تقدير واع لردود أفعالها.. وفى الحرب الدائرة الآن فى لبنان وإسرائيل يسقط أيضـًا إيهود أولمرت الذى لم يستطع أن يحسم الحرب ولو سياسيًا فى صالحه لليوم، بل وتسبب القصف المجنون العار من المنطق أوالرؤية إلى وقوع المجازر ـ وعلى رأسها مذبحة قانا ـ التى ستوصم إسمه فوق صفحات التاريخ وإلى الأبد..

وهنا أتوقف قليلا لأنادى بالزعيم الجديد السيد حسن نصرالله، أن يكون زعيمًا يكتب برؤيته ومواقفه إسمه فوق صفحات التاريخ.. دعك من هتاف الهاتفين وكلمات المؤيدين.. هتافهم وصراخهم سيدوم إلى حين.. وسرعان ما يذبل بأفول نجمكم، أو يغيب بغيابهم أو بغروب شموسهم.. ألم تر ما حدث لعبد الناصر قائد الثورة وزعيم العروبة؟ من ذا الذى يصفق له الآن أو يهتف بإسمه اليوم بعد أن كان ذكره يرج العروش؟ أو ما صار بصدام حسين وهو يضرب عن الطعام اليوم إحتجاجًا على سوء معاملة محامييه وقد كان الزعيم المهوب ذو اليد العليا التى طالما بطشت بكل من تجرأ على مخالفته حتى وإن كان من أهل بيته أو ذويه؟ أقول لك أنهم غابوا عن عقولنا وعن ذاكرة التاريخ لأنهم إفتقدوا تلك النظرة المستقبلية التى حدثتك عنها.. وهنا دعنى أقدم لك يا سيد نصرالله، وعلى الجانب الآخر، زعماء قدر لهم أن يظلوا دومًا عالقين بذاكرة الأيام لأنهم إستطاعوا يومًا أن يأخذوا خطوة، نعم خطوة واحدة يوم أتاحت لهم الظروف أن يتخذوها، فعبروا بها بشعوبهم من حال إلى حال..

من لبنان أولا ً الرئيس رفيق الحريرى مثالا ً.. كيف إستطاع هذا الرجل أن يعبر بلبنان الممزق بخصومات حرب أهلية، قتل فيها الأخ أخاه بغير رحمة، وانقسمت الدولة إلى دويلات طائفية بغيضة، تشحذ قوتها وصلابتها بتحالفات خارجية، تزيد الوطن تمزقـًا، حتى جاء الرجل الزعيم وقادها إلى الوحدة والإتحاد بل والإنصهار، الذى كان بوتقة استحداث دولة ديموقراطية وليدة، وإعادة البناء وإعمار لبنان الجديد، الذى صار مفخرة لى ـ كمصرى ـ بل ولكل عربى يرنو لهذا النموذج الحضارى، يتجاور مع وطنه، وليس عبر محيطات وقارات، معطيًا له أمل فى غد قد يشرق يومًا فوق أرض بلاده .. أما عن المثال التالى فسيكون صعب عليك تقبل كلماتى عنه، ولكنك ملقب بالسماحة، وأستشعر فيك العقلانية، لذا دعنى أقدم إليك شخصية زعيم سياسى كتبت حروف إسمه فوق صفحات التاريخ شئنا نحن أو أبينا، لأنه كان رجل سياسة ذو فكر محنك ونظرة ثاقبة نحو المستقبل..

من مصر هذه المرة أقدم إليك أيها السيد حسن نصرالله، أقدم الزعيم الذى خطف المجد خطفـًا بمكر وحنكة يحسده عليهما جمال، وصدام، ومعمر، وجورج، وإيهود، بل وحتى مناحم بيجين نفسه.. نعم إنه أنور السادات، الذى إستطاع أن يحول أنظار العالم كله نحوه يومًا ما، ويسرق إنتصار جيش بلاده فى معركته ضد إسرائيل فى أكتوبر 1973 ، وقبل أن تتحول الفرحة عنه، فينادى بوقف إطلاق النار والحرب مشتعلة، ويخاطب العالم حينذاك معلنـًا عن إختياره للسلام وحبه له، السلام الذى من أجله سوف يذهب إلى آخر العالم، وحتى تل أبيب، لينتزعه.. ولاقاه العالم بالتصفيق، والورود، وأصبح بطل الحرب والسلام، بل وكاد أن يصل لحل للقضية الفلسطينية وقيام دولة فلسطين لأول مرة منذ 1948 ، لولا الأخوة العرب الذين حالوا دون تحقيق ذلك.. وبالرغم من عداء التيار العروبى المجتاح له ولقراره الجرئ يومها، عادت كل الأراضى المحتلة لمصر، وتجنب الشعب خوض حروب جديدة مع إسرائيل، طيلة الثلاث والثلاثين عامًا المنصرمة، ولم تنفق الدولة بلايين الدولارات من أجل بناء قوة رادعة نرمى بها ـ أو نتكلم عن عزمنا أن نرمى ـ بإسرائيل فى البحر.. بدون الخوض أكثر فى تاريخ هذا الزعيم الذى لم يكن سوى رئيس تحرير الجريدة القومية الثالثة فى مصر، فى عز زمان إخوانه من أعضاء تنظيم الظباط الأحرار، ولكنه إستطاع أن يسرق له مكانـًا فى ذاكرة الأيام لأنه إتخذ القرار الصحيح على الأمد الأطول، والخيار الأبقى لشعبه ووطنه، فسجل إسمه فى صفحات التاريخ دونـًا عن الزعيم الكاريزماتى الذى سبقه جمال عبد الناصر، الذى سيذوى إسمه للأسف مع رحيل معاصريه.. واليوم وبعد أكثر من ثلاثين عامًا يتذكره العالم بأسره، بينما لا يعلم أحد من يكون مناحم بيجين، شريكه فى إتفاقية السلام..

قد أكون أثقلت عليك ولكن، بالله عليك، من سيكون أنفع للبنان غدًا؟ وأنا أكتب إليك عن الغد وبالتأكيد ليس عن اليوم، لأن اليوم قد يكون يومك أو قد لا يكون، ولكن الغد هو ما سيبقى للبنان، بشيعتها وسنتها وموارنتها ودروزها؟ الغد سيأتى حتمًا، بعد أن أرحل أنا وترحل أنت، بالله عليك مرة أخرى، من سيكون الزعيم الأبقى للبنان، صدام حسين يا ترى أم أنور السادات؟