قلبت الأمر في ذهني أكثر من مرة قبل الشروع بكتابة هذه الكلمات..
ثلاث ممثلات كبيرات ومعروفات يعشن في المنافي منذ سنوات دون أن يتذكرهن الإعلام العراقي أو حتى الوسط الفني الذي عشن فيه أعظم سنوات حيواتهن...
ناهدة الرماح، غزوة الخالدي وسهام السبتي.... هل فينا من يستطيع نسيان هذه الأسماء والأعمال الكبيرة التي شاركن فيها؟

***
حدثني الفنان المعروف غازي الكناني، والذي يعيش هو الآخر في عزلة خانقة في مدينة بيرث، غربي أستراليا، عن الفنانة ناهدة الرماح، لا أعرف كيف تسقط أخبارها، ولكنه قال لي أنها تعيش في حالة من الاحباط الشديد بمنزلها المتواضع في العاصمة الانجليزية دون أن يتذكرها أحد بعد سنوات من الشقاء والحرمان والابتعاد عن أضواء الشهرة بسبب موقفها من الديكتاتورية التي كانت تتسلط على رقاب العباد والفن في العراق...
كان الفنان المبدع جواد الأسدي هو الأبرز في تذكرها عندما خصها بنص مسرحي حمل عنوان: آلام ناهدة الرماح، وهو نص كتبه الأسدي باللهجة الشعبية العراقية كان يمكن له أن يتحول إلى عرض مسرحي شيق يقدم في صالة المسرح الوطني ببغداد لو كان ثمة استعداد لذلك من قبل الفرق العراقية العريقة مثل الفني الحديث والفرقة الوطنية للتمثيل.. وإذا وجد الاستعداد فمن أين لهذه الفرق بالدعم، وبالطبع لا أستثني بقصة الدعم الفرقة الوطنية الرسمية الحكومية، ما دام سيف التمويل الذاتي مسلطاً على رقاب الفرقة وأعضاءها، ومن قبلها دائرة السينما والمسرح.. ناهدة الرماح تقضي ساعاتها الطويلة والثقيلة في متابعة الأخبار المأساوية القادمة من العراق، وكانت تتوقع أن انهيار الديكتاتورية كفيل برفع الحيف عن اسمها وتجربتها وتاريخها الطويل عراقياً... ولكن للأسف الشديد لم يحدث من ذلك شيء، والسبب كما هو متوقع: العامل الأمني؟؟؟ عجباً وما علاقة هذا بالاحتفاء بمبدع عراقي أفنى سنوات عمره في النضال من أجل بلده؟

***
وهذه غزوة الخالدي، تكتب رسالة إلى موقع (مسرحيون) الذي يحرره على الأنترنت الصديق الناقد قاسم مطرود تشكو فيها شكوى مريرة.. ولقد عنونت رسالتها بعنوان لافت نصه: مثال حي لقضية ميته، هل أماتت غزوة الخالدي قضيتها أم أن ثمة جهات أرادت لهذه القضية أن تموت؟ القصة باختصار أن دوائر النظام الديكتاتوري وضعت أمام أسم غزوة الخالدي في السجلات الرسمية كلمة: (ميت)، وبذلك انتهت من وجع الراس الذي كان يأتيها من صوت الخالدي عبر إذاعات معارضة شتى عملت فيها ناهيك عن العديد من البرامج التي كانت تكتبها في تعرية همجية ذاك النظام، وبعد التاسع من نيسان أرادت فنانتنا أن تعيد راتبها التقاعدي فاصطدمت بموتها في السجلات الرسمية!!! وبعد التي واللتيا استطاعت بمساعدة بعض الأصدقاء في بغداد أن تعيد راتبها التقاعدي والذي، كما هو معروف، لا يكفي لتأجير شقة بغرفة واحدة في بغداد... وتتساءل الخالدي، ونحن معها: ماذا سيفعل أصدقائي من الفنانين المستقلين؟ ما هي سبل الوساطة لتعديل رواتبهم؟ أين يتجهون؟ ولأي حزب ينتمون؟.. غزوة الخالدي التي كان صوتها يلعلع في ذم الديكتاتورية يكون نصيبها من الاهمال والتهميش بعد سقوط الديكتاتورية مثل هذا؟ نبخل عليها حتى في راتبها التقاعدي؟؟ أليس العراق الحلم الذي تخيلناه سنيناً طويلة هو الذي لا يبخل على مبدعيه بل يقدمهم باعتبارهم الثروة الحقيقية للأمة؟

***
أما سهام السبتي، فلم تجد منا غير المشهد الشهير الذي جمعها ذات يوم بالراحل الكبير سليم البصري، وهكذا تبث القنوات الفضائية العراقية هذا المشهد مرات ومرات مستثمرة نجاحه الجماهيري دون السؤال عن أبطال المشهد والمآل الذي وصلوا إليها؟ هل تذكر القائمون على هذه القنوات حياة سليم البصري القاسية؟ موقفه في الزمن الأغبر؟ عائلته اليوم؟؟؟ هل سأل أحد عن الفنانة القديرة سهام السبتي؟ أين تعيش؟ وكيف؟ لا أملك إلا النفي فأنا على اتصال مستمر بالفنانة التي تقيم في سدني منذ سنوات وتمر بظروف صحية صعبة... السبتي التي فضلت الانضمام إلى صفوف المعارضة الوطنية العراقية حال خروجها من العراق بعد سنوات عضال من الصبر على الآلام في بغداد، ها هي اليوم تمضي نهاراتها في التأمل وربما اللقاء ببعض الفنانين الذين يريدون إخراجها من عزلتها، كما يفعل عباس الحربي ومنير العبيدي عندما خططا لإعادتها إلى الخشبة بمسرحية جديدة...والسؤال هنا: هل تستحق السبتي من المؤسسة الفنية والإعلام العراقي كل هذا التجاهل والنسيان؟ هل سنقول أن العامل الأمني هو السبب؟؟

****
سنوات مرت بعد سقوط الديكتاتورية التي كانت تمنع ذكر أسماء المبدعين العراقيين المقيمين في المنافي، مجرد أسماءهم كانت تثير القلق فمنعوها، فما بال صحفنا اليوم لا تنشر شيئاً عن هؤلاء؟ لماذا لا تظهر صور الرماحي والخالدي والسبتي وسواهن في صحفنا الوطنية بعد التحرير؟ لماذا لا يتذكر تجاربهن العاملون في الوسط الفني والثقافي والاعلامي؟ هل كثير عليهن الذكرى؟ ونحن نعرف أن أثر مثل هذه المبادرات البسيطة لكبير على فنان قدم عصارة جهده من أجل وطنه وجمهوره فوجد نفسه بغتة معزولاً مهمشاً..إننا نحرض بمحبة على تذكر مبدعينا أينما كانوا.. فهم في الأول والآخر عزوتنا.. قد نختلف مع هذا أو ذاك منهم بسبب عمل ما أو تجربة معينة ولكن في النهاية هم الذين يصوغون لنا جملة الجمال العراقية..

****

قلت أنني قلبت هذا الأمر في ذهني أكثر من مرة قبل الشروع بالكتابة... ومن ذلك خطرت في رأسي فكرة حالمة سيقابلها كثيرون بالاستهجان ولن تجد إلا قلة ليناصرونها... حلمت في رأسي أن تقرر دائرة السينما والمسرح انتاج مسرحية تجمع فيها ثلاث ممثلات عراقيات كبيرات يعشن في الهجير هن: ناهدة الرماح، غزوة الخالدي، وسهام السبتي... مسرحية يكلف لإخراجها فنان بارع في المسرح الشعبي هو الفنان فاضل خليل، وكاتب كبير مثل الفنان يوسف العاني أو موهوب مثل علي حسين، أو معني بشؤون المرأة مثل الفنانة عواطف نعيم... ثم تقرر الدائرة أن ينتج العمل في العاصمة البريطانية( مادام الوضع الأمني في العراق على هذه االحال) ويحدد له ثلاثين يوماً من التمارين وبعد انجاز العمل واكتماله يزج به في المهرجانات العربية والدولية... عرض مسرحي عن معاناة العراق، وإذا كان الشعار قديماً، فليكن إذن عن أزمة المرأة العربية، أزمة الوطن، البيت... أي شيء.. الأفكار مطروحة في الشوارع... عمل مسرحي كبير يعيد ثلاث فنانات كبيرات إلى الخشبة بعد انقطاع طويل.. وهو مشروع مربح كما نعتقد، مربح مادياً وإعلامياً وحضارياً.. ونحن نتحدث بهذه اللغة من أجل الاقناع فالفن عموماً ليس سلعة، ندرك ذلك، ولكن ما حجتنا؟ نريد اقناع الآخر بجدوى المسرح... وأهمية أن تبادر الجهات الوطنية العراقية لاحتضان المبدعين، خاصة أولئك المنسيين بلا ذنب.. الذين يعيشون قساوة المنافي بالرغم من كبر أعمارهم.. وهي دعوة موصولة لاحتضان الفنانين العراقيين الذين يجاهدون في مدن العراق المختلفة من أجل البقاء والانتاج والتواصل.

شاعر عراقي مقيم في أستراليا.
www.abdalkalikkaten.com